شرح القانون المدني / الدكتور عبدالرازق السنهوري / مصادر الالتزام / مصادر الحق / العقد
العقد
تمهيد
35 – مسائل ثلاث : نمهد للكلام في العقد بكلمات ثلاث :
إحداها في تعريف العقد ، والثانية في مبدأ سلطان الإرادة ، والثالثة في
تقسيم العقود .
* * *
1 – تعريف العقد
36 – الاتفاق والعقد : يميز بعض الفقهاء بين الاتفاق
والعقد .
فالاتفاق ( convention ) هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو
نقله أو تعديله أو إنهائه . فالاتفاق على إنشاء التزام مثله عقد البيع ،
ينشيء التزامات في جانب كل من البائع والمشتري . والاتفاق على نقل التزام
مثله الحوالة ، تنقل الحق أو الدين من دائن لدائن آخر أو من مدين لمدين آخر .
والاتفاق على تعديل التزام مثله الاتفاق على اقتران أجل بالالتزام أو إضافة شرط له .
والاتفاق على إنهاء التزام مثله الوفاء ينتهي به الدين .
والعقد ( contrat ) اخص من الاتفاق ، فهو توافق إرادتين على إنشاء التزام أو على
نقله . ومن ذلك يتضح أن كل عقد يكون اتفاقاً . أما الاتفاق فلا يكون
عقداً إلا إذا كان منشئاً لالتزام أو ناقلا له . فإذا كان يعدل الالتزام أو
ينهيه فهو ليس بعقد .
وقد نقل القانون المدين الفرنسي هذا التفريق بين العقد
والاتفاق عن بوتييه ودوما ، إذ عرف العقد في المادة 1101 بأنه اتفاق يلتزم
بمقتضاه شخص أو عدة أشخاص نحو شخص أو عدة أشخاص آخرين بإعطاء شيء أو بفعله أو
بالامتناع عن فعله . فالعقد إذن بمقتضى هذا التعريف اتفاق ينشيء التزاماً ،
فهو نوع ( espece ) والاتفاق جنس ( genre ) له . ويلاحظ أن التعريف الذي أورده القانون
الفرنسي يجمع بين تعريف العقد وتعريف الالتزام ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
37 – لا أهمية للتمييز بين الاتفاق والعقد : ولا نرى
أهمية للتمييز بين الاتفاق والعقد . ونتفق في هذا مع أكثر الفقهاء . وإذا
كان الفقهاء الذين يقولون بالتمييز يرون أهمية له من حيث الأهلية ، فهي تختلف
في العقد عنها في الاتفاق ، فإنه يلاحظ على هذا الرأي أن الأهلية تختلف
باختلاف العقود ذاتها ، فهي في عقود التبرع مثلا غيرها في عقود المعاوضة ،
ومع ذلك لم يقل أحد إن هناك فرقاً ما بين الهبة والبيع من حيث أن كلا منهما عقد
لمجرد أن الأهلية تختلف في أحدهما عنها في الآخر .
وكان المشروع التمهيدي يورد تعريفاً للعقد لا يميز فيه
بينه وبين الاتفاق . فنصت المادة 122 من هذا المشروع على أن " العقد
اتفاق ما بين شخصين أو أكثر على إنشاء رابطة قانونية أو تعديلها أو إنهائها " .
وهذا هو تعريف المشروع الفرنسي الإيطالي في المادة الأولى منه . وقد قصد من
إيراد هذا التعريف في المشروع نفي كل تفرقة بين العقد والاتفاق وجعلهما شيئاً واحد
كما صرحت بذلك المذكرة الإيضاحية ( [1]
) . وإذا كان هذا التعريف قد حذف في المشروع النهائي فإن هذا الحذف لا يعني
عدولا عن عدم التمييز بين الاتفاق والعقد ، بل كان الحذف مجاراة لسياسة
تشريعية هي تجنب الإكثار من التعريفات الفقهية ( [2]
) .
لذلك نرى أن يعرف العقد بأنه توافق إرادتين على إحداث
اثر قانونين سواء كان هذا لااثر هو إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهاؤه .
38 – وجوب الاتفاق على إحداث اثر قانونين : والمهم في
العقد أن يكون هناك اتفاق على إحداث اثر قانوني . فإذا لم يكن المراد إحداث
هذا الأثر فليس هناك عقد بالمعنى القانونين المقصود من هذه الكلمة . ويتبين
ذلك من الظروف والملابسات .
فقد يدعو شخص آخر إلى وليمة ، في نطاق المجاملات
الاجتماعية ، فيقبل المدعو ، ولا يقصد الطرفان من هذا الاتفاق أن ينشئا
التزاماً قانونياً فيما بينهما . فإذا تخلف المدعو أو عدل الداعي لم تترتب
على ذلك مسئولية في جانب من اخل منهما بوعده . ولكن قد يكون تقديم الطعام
التزاماً قانونيناً إذا قصد المتعاقدان ذلك . ويتبين قصدهما من الظروف .
فإذا اتفقت شركة مع مستخدم عندها على أن تقدم له الغذاء أثناء عمله في جهة نائية ،
أو تعهد صاحب الفندق أن يقدم الطعام للنزيل ، فهذا التعهد ذو اثر قانوني وهو
ملزم للمتعهد .
وقد يتبرع صديق لصديقه بتقديم خدمة مجانية دون أن يقصد
الالتزام قانوناً بتقديم هذه الخدمة . فإذا وعد مزارع جاره أن يقدم له
المعونة دون مقابل في حصاد زرعه ، أو تقدم طبيب لمعالجة صديق له دون اجر ،
أو عرض شخص على صديقه أن يستصحبه في سيارته ، فلا تنطوي هذه الاتفاقات على معنى
الإلزام . وإنما يكون الإلزام إذا قصد إليه الطرفان . فالطبيب الذي تعهد
أن يعالج فقيراً دون اجر يلتزم قانوناً بذلك .
وقد تقوم اتفاقات بين أعضاء الأسرة لا يقصد بها عقد
التزامات قانونية . فالولد الذي يعمل مع أبيه في صناعته ، والزوجة التي
تعين زوجها في تجارته ، والأب الذي يعد ابنه بجائزة إذا نجح في الامتحان ،
لا يقصد أي منهم أن يرتبط ارتباطاً ملزماً . ولكن إذا قام هذا القصد ترتب على
قيامه الارتباط القانوني . فقد يعمل الولد أجيراً عند أبيه ، وقد تشارك
الزوجة زوجها في تجارته ، وقد يعد شخص بجائزة من يقدم خير تصميم لمبنى يريد
إقامته فيفوز ابنه المهندس بالجائزة .
39 – تحديد منطقة العقد : وليس كل اتفاق يراد به إحداث
اثر قانونين يكون عقداً . بل يجب أن يكون هذا الاتفاق واقعاً في نطاق القانون
الخاص وفي دائرة المعاملات المالية .
فالمعاهدة اتفاق بين دولة ودولة ، والنيابة اتفاق
بين النائب وناخبيه ، وتولية الوظيفة العامة اتفاق بين الحكومة والموظف .
ولكن هذه الاتفاقات ليست عقوداً إذ هي تقع في نطاق القانون العام : الدولي
والدستوري والإداري .
والزواج اتفاق بين الزوجين ، والتبني في الشرائع
التي تجيزه اتفاق بين الوالد المتبني والولد المتبني . ولكن يجر إلا تدعي هذه
الاتفاقات عقوداً وإن وقعت في نطاق القانون الخاص ، لأنها تخرج عن دائرة
المعاملات المالية .
فإذا وقع اتفاق في نطاق القانون الخاص وفي دائرة
المعاملات المالية فهو قعد . تستوي في ذلك العقود التي يقف فيها المتعاقدان
على قدم المساواة وتلك التي يذعن فهيا أحد المتعاقدين للأخر ، والعقود التي
توفق ما بين مصالح متعارضة وتلك التي تجمع ما بين مصالح متوافقة ، والعقود
الذاتية ( actes
subjectifs ) وتلك التي تنظم أوضاعاً مستقرة ( actes - regle, actes - condition ) وكان بعض
فقهاء القانون العام يريدون إخراج عقود الإذعان ( contrats d'adhesion ) والعقود
التي تجمع ما بين المصالح المتوافقة كعقد الشركة ، والعقود التي تنظم اوضاعاً
مستقرة كالعقود الجماعية ( contrats
collectives ) ، من منطقة العقد . ولكن هذا الرأي لم
يسد في القانون المدني .
40 – المذهبان الشخص والمادي في العقد : سبق أن أشرنا
إلى مذهبين في الالتزام ، أحدهما شخصي ينظر إلى الالتزام كرابطة شخصية ،
والآخر مادي ينظر إليه كقيمة مالية . هذان المذهبان نراهما أيضاً في العقد .
فالمذهب الشخصي يرى العقد وليد الإرادة الباطنة أو الإرادة النفسية . والمذهب
المادي يراه وليد الإرادة الظاهرة أو الإرادة المادية .
والقوانين اللاتينية ، هنا أيضاً ، هي التي
تذهب مذهباً شخصياً في العقد ، وتأخذ بنظرية الإرادة الباطنة ( volonte interne ) ، وعندها
أن العبرة بإرادة المتعاقدين التي يكنانها في الضمير ، وما التعبير المادي عن
هذه الإرادة إلا مجرد دليل يكشف عنها . فإن اتفق هذا التعبير مع الإرادة
الحقيقية أخذ به ، وإلا فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني .
أما القوانين الجرمانية فتأخذ في كثير من الأحوال
بالإرادة الظاهرة ( volonte
externe, declaration de volonte ) ، وتقف عند التعبير عن الإرادة ، ولا شأن
لها بالإرادة الحقيقية ، فالتعبير المادي عن الإرادة ليس مجرد لدليل عليها ،
بل هو الإرادة ذاتها : الإرادة في ثوبها الاجتماعي حيث يمكن التعرف عليها . وهذا
المظهر المادي هو المظهر الذي يجب الوقوف عنده ، ما دام العقد ينشيء روابط
اجتماعية . ولا عبرة بالإرادة التي تنطوي عليها النفس ، فهي من الظواهر
النفسية ، لا يعبأ القانون بها وهو ينظم الروابط الاجتماعية . وسنعود
إلى هذا الموضوع ببيان أو في فيما يلي .
2 - مبدأ سلطان الإرادة
( Autonomie
de la Volonte )
41 – عرض عام للمبدأ : يذهب أنصار هذا المبدأ إلى أن
الإرادة لها السلطان الأكبر في تكوين العقد وفي الآثار التي تترتب عليه ، بل
وفي جميع الروابط القانونية ولو كانت غير تعاقدية .
وعندهم أن النظام الاجتماعي يرتكز على الفرد . فهو
الغاية ، ولخدمته يسخر المجموع . والفرد لا يستكمل شخصيته إلا بالحرية ،
بل إن مظهر هذه الشخصية هي الإرادة الحرة المستقلة . وكما أن رجال الفلسفة
يجعلون التفكير أية الشخصية من الناحية الفلسفية ، فإن رجال القانون من أنصار
هذا المبدأ يتخذون الإرادة أية الشخصية من الناحية القانونية . ولما كان الفرد
يعيش في المجتمع ، ولما كانت الغاية الأولى هي احترام حريته وإرادته ،
كان من الواجب أن تكون روابطه بغيره من أفراد المجتمع أساسها الإرادة الحرة .
فلا يخضع لواجبات إلا إذا كان قد ارتضاها مختاراً . وكل التزام أساسه الرضاء
والاختيار يتمشي مع القانون الطبيعي ، لأن هذا القانون إنما يقوم على الحرية
الشخصية ووجوب احترامها . فالإرادة الحرة هيب إذن مبدأ القانون ،
والغاية التي ينتهي إليها . وما المهمة التي يضطلع بها القانون إلا تحقيقي
حرية كل فرد بحيث لا تتعارض هذه الحرية مع حريات الآخرين . هذا التوازن ما
بين الحريات جميعاً هو ما يجب على المشرع أن يعني به . وليس عليه بعد ذلك أن
يرى ما إذا كان النشاط الفردي الحر يتفق مع ما تقتضيه مبادئ الأخلاق ، ولا
عليه أن يرى إلى أي حقد يتفق صالح المجموع مع صالح الفرد ، فالفرد لا المجموع
هو الذي يحميه القانون .
هذا المبدأ كان له حظ كبير من الأثر في القانون الحديث
بعد انتشار المذهب الفردي على اثر تطور النظم الاقتصادية . ولكن استمرار هذه
النظم في التطور ، وظهور الصناعات الكبيرة ، واختلال التوازن بين القوى
الاقتصادية ، مهد للمذاهب الاشتراكية سبيل الانتشار ، فقامت هذه المذاهب
معارضة للمذاهب الفردية ، وكان من ذلك أن انتكص مبدأ سلطان الإرادة ،
وجعل خصومه يمعنون في نقده ، حتى قام أخيراً فريق من المعتدلين يضعون الأمور
في حدودها المعقولة .
فنحن نتبع في بحثنا هذه المراحل الأربع ، فنرى كيف
نشأ هذا المذهب ، وما بلغ إليه من المدى عند بلوغه ذروته ، وكيف رجع
القهقري بعد ذلك ، ثم كيف وضع الأمر في نصابه المعقول . ولا تزعم بذكر
هذه المراحل إنها تحققت عملا في التاريخ ، وإلا فإن سلطان الإرادة الكامل لم
يتحقق في أية مرحلة منها على النحو الذي يصفه أنصار المبدأ المتطرفون . وإنما
نعني أن هناك تطوراً في منحي التفكير الاجتماعي نقسمه إلى مراحل توخياً للإيضاح في
بسط هذه الآراء . ونحن في ذلك لا نؤرخ وقائع اجتماعية ، بل نتتبع تطور
نظريات ومذاهب .
42 – كيف نشأ مذهب سلطان الإرادة : لم يعترف القانون
الروماني في أي عصر من عصوره بمذهب سلطان الإرادة كاملا . بدأت العقود فيه
تكون شكلية تحوطها أوضاع معينة من حركات وإشارات وألفاظ وكتابة . أما مجرد
توافق إرادتين ( nudum pactum ) فلا يكون عقداً ولا يولد التزاماً . فكان المدين يلتزم لا لسبب
سوى أنه استوفى الأشكال المرسومة ، ويكون التزامه صحيحاً حتى لو كان السبب
الحقيقي الذي من اجله التزم لم يوجد أو لم يتحقق أو كان غير مشروع أو كان مخالفاً
للآداب . فالعقد الشكلي كان عقداً مجرداً صحته تستمد من شكله لا من موضوعه .
ولكن الحضارة الرومانية ما لبثت أن تطورت وتعقدت سبل الحياة . فكان من ذلك
توزيع العمل ، والحاجة إلى كثرة التبادل ، ووجوب السرعة في المعاملات .
واقترن هذا كله يتقدم في التفكير القانونين أدى إلى التمييز بين الشكل والإرادة ف
يالعقد وإعطاء الإرادة قسطاً من الأثر القانوني . ودعا هذا إلى اعتبار
الاتفاق موجوداً بمجرد توافق الإرادتين ، والشكل ليس إلا سبباً قانونياً ( causa civilis ) للالتزام
قد توجد أسباب غيره . ومن ثم ظهر إلى جانب العقود الشكلية العقود العينية
والعقود الرضائية والعقود غير المسماة . وانتصر مبدأ سلطان الإرادة في دائرة
العقود الرضائية . وانتصر بعد ذلك في بعض عقود أخرى عرفت بالعقود البريطورية
( pactes
pretoriens ) والعقود الشرعية ( pactes legitimes ) . ولكن
القانون الروماني لم يقرر في أية مرحلة من مراحله مبدأ سلطان الإرادة في العقود
بوجه عاز . بل ظلت الأوضاع بعد أن تهذبت هي التي تخلق العقد بقدر اختلف قوة
وضعفاً بحسب تطور القانون واتساع نطاق التبادل والمعاملات . وبقى العقد
اللفظي ( contrat
verbal
) إلى آخر عهود القانون الروماني هو القالب الذي يصبون فيه ما
تبدو الحاجة إليه من الاتفاقات غير المعروفة حتى تصبح ملزمة .
أما في العصور الوسطى فلم تنقطع الشكلية وتستقل الإرادة
بتكوين العقد إلا تدرجاً . وقد استمرت الشكلية في أوضاعها السابقة الذكر إلى
نهاية القرن الثاني عشر . ثم أخذت تتحور ، وكانت متجهة إلى التناقص .
وأخذت الإرادة يقوى أثرها في تكوين العقد شيئاً فشيئاً . وساعد على هذا
التطور عوامل أربعة :
1 - تأثير المبادئ الدينية وقانون الكنيسة : فكان
المتعاقد إذا اقسم على احترام عقده ، ولو لم يفرغه في شكل مخصوص ، عد
الحنث باليمين خطيئة يعاقب عليها . بل كان مجرد عدم الوفاء بالوعد خطيئة
دينية . وسهل الانتقال من فكرة العقوبة إلى فكرة الإلزام المدني حتى أصبح
مجرد الاتفاق يجوز تنفيذه بدعوى ( action ex
nudo pacto ) أمام المحاكم الكنيسة .
2 - إحياء القانون الروماني والتأثر به : ونحن نعلم أن
القانون الروماني كان قد وصل في تطوره من حيث استقلال الإرادة إلى حد كبير بمختلف
عقوده الملزمة . وتوسعوا في تفسير تلك الروح ، وفهموا خطأ أن القانون
الروماني يقرر مبدأ سلطان الإرادة . فساعد ذلك على قبول هذا المبدأ .
وأصبحت القاعدة في القانون الفرنسي القديم هي ما كان استثناء في القانون الروماني .
3 - العوامل الاقتصادية : بعد أن زاد النشاط التجاري
وقويت حركة التعامل اقتضى الأمر إزالة ما يعوق المبادلات التجارية من الأوضاع
والأشكال . فكانت المحاكم التجارية الإيطالية في القرن الرابع عشر تقضي طبقاً
لقواعد العدالة . والعدالة لا تميز بين العقد الشكلي ومجرد الاتفاق من حيث
الإلزام .
4 - العوامل السياسية : وكان ذلك بطريق التدرج في بسط
نفوذ الدولة ، وتدخلها شيئاً فشيئاً في الروابط القانونية بين الأفراد ،
والأخذ في حماية العقود التي تتم بمجرد الاتفاق . وكان من شان ذلك أن هجرت
الأوضاع القديمة ، وحل محلها أشكال أخرى أقل إغراقاً في الفطرية والسذاجة .
وما جاء القرن السابع عشر حتى أصبح مبدأ سلطان الإرادة
ثابتاً مقرراً . وما كان اثر الدين يضعف حتى حل محله ما انتشر من نظريات اقتصادية
وفلسفية وسياسية ، وكلها مشبعة بروح الفردية ، وقد بلغت أوجها في القرن
الثامن عشر ، وهي تشيد بوجود قانون طبيعي مبنى على حرية الفرد ووجوب استقلال
إرادته وتسيير هذه الإرادة لكل ما في الحياة من نظم اقتصادية واجتماعية . وقد
قام الفزيوقراطيون ( physiocrates ) ينادون بالحرية الاقتصادية قانوناً طبيعياً ، ويذهبون إلى أنه
لو تركت الناس أحراراً في نشاطهم الاقتصادي وفتحت أبواب المنافسة بينهم ، فلا
تلبث الأمور أن تستقر ، وتتحدد الأسعار من طريق المنافسة والعرض والطلب ،
لا من طريق تحكمي يمليه المشرع . ومعنى هذا أن الإرادة وحدها هي التي يجب أن
تسيطر في الميدان الاقتصادي ، وأن العقود لا تخضع في تكوينها وفي الآثار التي
تترتب عليها إلا الإرادة المتعاقدين . وصحب هذه النظريات الاقتصادية نظريات
فلسفية وسياسية حمل لواءها روسو ( rousseau ) في كتابه المعروف بالعقد الاجتماعي ( contrat social ) ، فكانت
حرية الفرد واستقلال إرادته هي المحور الذي يدور عليه تفكير ذلك العصر . وقد
تلقت الثورة الفرنسية هذه النظريات وقامت عليها ، وسلمتها إلى المشرعين في
أوائل القرن التاسع عشر ، فوضع قانون نابليون على أساس تقديس حرية الفرد
والإمعان في احترام إرادته .
43 – مدى ما وصل إليه مبدأ سلطان الإرادة : استقر هذا
المبدأ وصار دعامة تبنى عليها النظريات القانونية . وهو بعد أن تمشي فيه
المنطق القانونين أصبح يشتمل على اصلين : ( أولاً ) كل الالتزامات ، بل كل
النظم القانونية ، ترجع في مصدرها إلى الإرادة الحرة . ( ثانياً ) لا
تقتصر الإرادة على أن تكون مصدر الالتزامات ، بل هي أيضاً المرجع الأعلى فيما
يترتب على هذه الالتزامات من آثار .
فالإرادة الحرة هي التي تهيمن على جميع مصادر الالتزام .
وهذه الإرادة تتجلى قوية في العقد . فالمتعاقدان لا يلتزمان إلا بارادتيهما .
ولا يلتزم أحد بعقد لم يكن طرفاً فيه ، كما لا يكسب أحد حقاً من عقد لم يشترك
فيه . أما نظرية الاشتراط لمصلحة الغير فتبدو ضيقة محدودة في قانون نابليون ،
ولم يحصل التوسع فيها إلا في العهد الأخير . فالعقد إذن يرتكز على الإرادة ،
بل هو يتمحض إرادة خالصة إذا قلنا أن إرادة المدين وحدها هي التي تلزمه .
وسنرى ذلك عند الكلام في الإرادة المنفردة . وشبه العقد مبنى على إرادة
مفروضة . والجريمة وشبه الجريمة مردهما إلى الإرادة الحرة . والقانون
نفسه إذا رتب التزامات فإنما هو يفترض في ترتيبها أن الملتزم ارتضاها في ذمته التزاماً .
وليس سلطان الإرادة مقصوراً على توليد الالتزامات وحدها ،
بل أيضاً يولد كل الحقوق الأخرى . فالملكية مبنية على حرية الإرادة ، بل
هي الحرية في مظهرها الملموس المادي . وحقوق الأسرة مبنية على عقد الزواج أي
على الإرادة . والميراث مبنى على وصية مفروضة . وطرق التنفيذ الإجباري
ذاتها ترتكز على الإرادة الحرة ، فهي طرق وإن كانت إجبارية قد ارتضاها المدين
وقت الاستدانة . بل العقوبة الجنائية لا مبرر لمشروعيتها إلا في الإرادة ،
فالمجرم الذي خرج على المجتمع قد ارتضى مقدماً أن يناله الجزء . ذلك لأن
القانون ما هو إلا وليد الإرادة ارتضاه الناس بأنفسهم أو بممثليهم واختاروا الخضوع
لسلطانه ، والمجتمع البشري ذاته ، اليست دعامته هذا العقد الاجتماعي
الذي نادى به روسو ومن قبله من الفلاسفة والمفكرين !
وكما أن منشأ الالتزامات يرجع للإرادة الحرة ، كذلك
الأثر الذي يترتب على الالتزام ، فهو خاضع للإرادة أيضاً . ولهذا الأصل
ناحيتان :
الناحية الأولى أن كل ما ارتضاه الملتزم ديناً في ذمته
يكون صحيحاً وينتج أثره لأن التزامه إنما بنى على إرادته . فلا يصح أن نقيد
من اثر العقد بدعوى أن هناك غبناً لحق أحد المتعاقدين ما دام قد ارتضى هذا الغبن .
والعامل الذي يتعاقد مع رب العمل حراً مختاراً يجب عليه أن ينفذ ما التزم به ،
ولا يحتج بان الشروط التي ارتضاها جائرة . وليس المهم في العقد أن يكون هناك
تعادل بين الشيئين المتبادلين ، بل يكفي أن يكون التعادل بين الشخصين
المتعاقدين وقد توفر كل منهما على حريته وإرادته المستقلة . والأصل في
الإنسان الحرية واستقلال الإرادة ، ولا يكون الأمر غير ذلك إلا في حدود رسمها
القانون ، كان يكون المتعاقد قاصراً في السن أو في العقل ، أو يكون ضحية
غلط أو إكراه أو غش . أما في غير هذه الحدود فالإنسان حر مستقل في إرادته .
فإذا التزم بشيء كان العدل أن يقوم بما التزم به . أما ما يقال عن التضامن
الاجتماعي والتعسف في استعمال الحقوق وقواعد العدالة والنظام العام ، فهذه
الأشياء لا ينبغي أن تغرق في التحديد من سلطان الإرادة . وإذا كانت قواعد
العدالة والنظام العام تعني شيء ، فلا أحق بعنايتها من سلطان الإرادة
والتسليم بأثره كاملا في تفسير العقد وترتيب نتائجه القانونية .
والناحية الثانية من هذا الأصل أن العقد ، وقد تم
بتوافق إرادتين مستقلتين ، لا يجوز تعديله إلا بتوافق هاتين الإرادتين .
فلا يستقل أحد من المتعاقدين بتعديله ، ولا يجوز للقاضي نفسه بدعوى إتباع
قواعد العدالة أن يعدل فيه أو أن يضيف إليه ما ليس منه .
4 – انتكاص مبدأ سلطان الإرادة ( نقد المبدأ ) : إذا
ارجعنا انتصار مبدأ سلطان الإرادة إلى عوامل اقتصادية ، وهي العوامل التي أدت
إلى انتشار روح الفردية ف يالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، فهذه العوامل
ذاتها بعد أن تطورت ، وقامت الصناعات الكبيرة ، وتاسست الشركات الضخمة ،
ونظمت طوائف العمال على اثر اختلال التوازن بين القوات الاقتصادية ، مما أدى
إلى انتشار روح الاشتراكة وقيامها في وجه المذاهب الفردية ، هذه العوامل كما
قلنا كان من شانها أن تنقص من سلطان الإرادة . فيكون هذا المبدأ قد قام على
أساس اقتصادي ، وانتكص متأثراً بعوامل اقتصادية .
ويتولى خصوم المبدأ تفنيد النتائج التي وصل إليها أنصاره .
فيقولون إن جعل الإرادة مصدراً لكل الحقوق فيه إغراق في نواح ووهم في نواح أخرى .
فالالتزامات التعاقدية ذاتها وهي مبنية على توافق إرادتين لا تستند إلى محض
الإرادة الداخلية ، والمتعاقد لا يتقيد بتعاقده لأنه أراد ذلك فحسب ، بل
هناك اعتبارات اجتماعية ترجع للثبات والاستقرار الواجب توافرها في المعاملات
والثقة التي يولدها التعاقد في نفوس المتعاقدين ، وهي التي تستند إليها قوة
الإلزام في العقود . وقد لا يتم اتحاد حقيقي بين الإرادتين عند التعاقد ،
ومع ذلك فاتحادهما حكما يكفي ما دام التعاقد قد ولد ثقة مشروعة يترتب على الإخلال
بها ضرر . وما العقد إلا نظام من النظم الاجتماعية يراد به تحقيق التضامن
الاجتماعي وتوجيه الإرادة في هذا السبيل ، وليس الغرض منه تحقيق ما للإرادة
من سلطان . وهناك نظرية ألمانية لا تحفل بالإرادة الباطنة ولا تجعل لها
سلطاناً ، بل تنظر إلى الإرادة الظاهرة لأنها وحدها الشيء المحسوس كحقيقة
اجتماعية ، وهي التي يؤبه لها لأنها تولد الثقة المشروعة .
أما إسناد مصادر الالتزام الأخرى إلى الإرادة فالحجة فيه
أوهي . وقد تبين أن ما يسمى بشبه العقد لا يشبه العقد في شيء من حيث استناده
إلى الإرادة كما أن الجريمة وشبه الجريمة إنما يتولد الالتزام فيهما من القانون ،
وهو التزام يترتب على عكس مقتضى إرادة من صدر منه العمل غير المشروع ، فإن
هذا لم يرد أن يلتزم بعمله ، بل أراد النقيض من ذلك ، فيلزمه القانون
رغماً عن إرادته ، فأين نحن هنا من سلطان الإرادة ! ولقد كانت نظرية سلطان
الإرادة عائقاً يحول دون الأخذ بمسئولية المجنون والطفل والأخذ بالمسئولية المادية
وهذه مذاهب تطورت إليها الشرائع الحديثة ، وفي الأخذ بها إلى مدى معين إرضاء
للعدالة ، ومطاوعة لأسباب الاستقرار ، وسير في طريق التقدم .
وإذا تركنا الالتزامات جانباً ونظرنا إلى الحقوق الأخرى
التي يزعمون أن مصدرها الإرادة ، رأينا أن وهم القائلين بهذا الرأي هنا أيضاً
يتجسم . فالملكية ليست إرادة المالك ، بل إن هذه الإرادة يرد عليها قيود
متعددة ترجع إلى التضامن الاجتماعي ، وبخاصة ما يتصل منه بمراعاة حسن الجوار .
وليس الميراث مبنياً على وصية مفترضة ، بل الواقع من الأمر أن الميراث سبق
الوصية في التطور التاريخي ، وأساسه اشتراك الأسرة في ملكية الأموال .
أرأيت لو كان المورث طفلا أو مجنوناً أكان يصح الزعم بان ميراثه وصية مفترضة وهو
لا يستطيع أن يترك وصية صريحة ! كذلك روابط الأسرة لم ينظمها عقد الزواج ،
فإن هذا العقد إنما وضع الزوجين في مركز قانونين نظمه المشرع نفسه طبقاً لصالح
المجتمع وصالح الأسرة ، ولا دخل لإرادة الزوجين في ذلك . أما القول بان
المجرم قد ارتضي توقيع العقوبة عليه فهو قول أقرب إلى التهكم منه إلى الحقيقية ،
وإلا فأي مجرم رأى في العقوبة جزاء ارتضاه لنفسه ! إنما العقوبة ترجع في مشروعيتها
إلى اعتبارات اجتماعية لا دخل لإرادة المجرم فيها .
45 – وضع الأمور في نصابها – إلى أي حد تسيطر الإرادة
على العقود : تبين من نقد مبدأ سلطان الإرادة أن الخطأ الذي وقع فيه أنصار هذا
المبدأ هو اتخاذه مبدأ مطلقاً في كل نواحي القانون . وهذه المبالغة كانت سبباً
في مبالغة تعارضها ، وقام خصوم المبدأ هم أيضاً يقولون بنبذه مرة واحدة .
وبين الامعان في إطلاق المبدأ إلى أوسع مدى والمبالغة في رده إلى أضيق الحدود ،
وجد المعتدلون مجالا لوضع الأمور في نصابها الصحيح .
ونحن إذا توخينا الاعتدال وجانبنا التطرف ، تبينا
أن الإرادة لا سلطان لها في دائرة القانون العام . فالروابط الاجتماعية التي
تخضع لهذا القانون إنما تحددها المصلحة العامة لا إرادة الفرد . أما العقد
الاجتماعي المزعوم فقد أصبح نظرية عتيقة مهجورة .
وإذا انتقلنا إلى دائرة القانون الخاص ، فما يتعلق
منها بالأسرة لا مجال للإرادة فيه إلا بقدر محدود . فعقد الزواج ، وهو
الأساس الذي ترتكز عليه الأسرة ، مصدره إرادة المتعاقدين ، ولكن الآثار
التي تترتب على العقد ليست خاضعة للإرادة ، بل ينظمها القانون طبقاً لمصلحة
الأسرة والمجتمع . وكذلك بقية روابط الأسرة لا شأن للإرادة فيها .
وما يتعلق من دائرة القانون الخاص بالأموال نرى الإرادة
تنشط فيها تدرجاً . وهي في الحقوق العينية اضعف نشاطاً منها في الحقوق
الشخصية . فإن الحقوق العينية ، وإن كانت الإرادة مصدراً لكثير منها ،
حقوق محصورة لا تستطيع الإرادة أن تخلق شيئاً جديداً فيها . ثم إن آثار هذه
الحقوق لا تخضع لإرادة الأفراد إلا نادراً ، بل إن القانون هو الذي يتولى في
الغالب تحديد مداها .
ولكن الإرادة في الحقوق الشخصية لها مجال واسع ،
فهي مصدر لكثير من هذه الحقوق ، وهي التي ترتب آثارها . ومع ذلك لا نريد
أن نبالغ في أهمية الإرادة حتى في الحقوق الشخصية . فإنها إذا كانت من أهم
المصادر لهذه الحقوق نف ذلك لا يمنع من أن يوجد بجانبها مصادر أخرى قد تعدلها في
الأهمية كالعمل غير المشروع ، أو تقرب منها كالإثراء بلا سبب .
وإذا خلصنا إلى الالتزامات التعاقدية وجدنا الإرادة تجول
في هذا الميدان أوسع ما تكون خطي وابعد ما تكون مدى . ولكن حتى في هذا الميدان ،
إذا نظرنا إلى الإرادة من حيث إنها ترتب أحكام الالتزامات التعاقدية ، وجدنا
إنها محدودة في ذلك بقيود النظام العام والآداب . بل إن إرادة الفرد – حتى في
داخل هذه القيود – يضعف أثرها في بعض العقود التي تضع نظاماً ثابتة للطوائف
والجماعات ، كما في الجمعيات والشركات والنقابات ، فهذه تنظيمها الجماعة
التي تنتمي إليها ولا تعتد في تنظيمها بإرادة كل فرد من أفرادها . وهناك عقود
الجماعة ( contrats
collectfs ) ، كعقد العمل الجامع ( contrat collecolf du travail ) ، وصلح
أغلبية الدائنين مع المفلس ، نرى فيها الأقلية تخضع لإرادة الأغلبية .
كذلك توجد قيود على حرية الإرادة ترجع لاختلال التوازن بين القوى الاقتصادية
وأنصار القانون للجانب الضعيف ، كما نرى في تشريع العمال وفي عقود الإذعان
وفي نظرية الاستغلال وهي نظرية تتوسع تدرجاً في القوانين الحديثة حتى تتناول كل
العقود ثم إن الإرادة وهي في دائرة كل هذه القيود لا تزال خاضعة أيضاً لشكلية
تتطلبها بعض العقود حماية للمتعاقد الذي يقدم على أمر خطير كما في الهبة والرهن
الرسمي . وهي تخضع كذلك لقواعد الشهر حماية للغير حسن النية . وتخضع
أخيراً لقواعد الإثبات وهي قواعد من شانها أن تقيد سلطان الإرادة من الناحية
العملية .
هذه هي الحدود التي يرسمها القانون في الوقت الحاضر
ميداناً لسلطان الإرادة . فهو يعترف بهذا السلطان ، ولكن يحصره في دائرة
معقولة ، تتوازن فيها الإرادة مع العدالة والصالح العام .
3 - تقسيم العقود
46 – تقسيمات مختلفة : ذكر القانون المدني الفرنسي بعض
تقسيمات للعقود في غير استقصاء . والتقسيم أقرب إلى عمل الفقيه منه إلى عمل
المشرع . ؟؟ لم يعرض له القانون المدني المصري ، لا القديم ولا الجديد (
[3]
) . كذلك لم تعرض له التقنينات الحديثة كالتقنين الألماني والتقنين السويسري .
ويمكن تقسيم العقد عدة تقسيمات إذا نظر إليه من وجهات
مختلفة .
فالعقد من حيث التكوين إما أن يكون عقداً رضائياً ( contrat cousensuel ) أو عتداً
شكلياً ( ontrat
solomel
) أو عقداً عينياً ( contrat reel ) .
وهو من حيث الموضوع إما أن يكون عقداً مسمي ( contrat nomme ) أو عقداً
غير مسمي ( contrat
innomme
) . وإما أن يكون عقداً بسيطاً ( contrat simple ) أو عقداً
مختلطاً ( contrat mixte ) .
وهو من حيث الأثر إما أن يكون عقداً ملزماً للجانبين ( contrat synal lamgatique , bilateral ) أو عقداً ملزماً لجانب واحد ( contrat unilateral ) . وإما أن
يكون عقد معاوضة ( contrat a
titre onereux ) أو عقد تبرع ( contrat a titre gratuity ) .
وهو من حيث الطبيعة إما أن يكون عقداً محدداً ( contrat commutative ) أو عقداً
احتمالياً ( contrat
aleatoire ) . وإما أن يكون عقداً فورياً ( contrat instantane ) أو عقداً
زمنياً ( contrat
successif ) .
1-
العقد الرضائي والعقد الشكلي والعقد العيني
47 - العقد الرضائي : هو ما يكفي في انعقاده تراضي
المتعاقدين ، أي اقتران الإيجاب بالقبول . فالتراضي وحده هو الذي يكون
العقد . وأكثر العقود في القانون الحديث رضائية ، كالبيع والإيجار .
وقد تقدم أن القانون لم يبلغ هذه القاعدة طفرة ، بل تطور إليها تدرجاً .
ولا يمنع العقد من أن يكون رضائياً أن يشترط في إثباته
شكل مخصوص . إذ يجب التمييز بين وجود العقد وطريقة إثباته . فما دام
يكفي في وجود العقد رضاء المتعاقدين فالعقد رضائي ، حتى لو اشترط القانون لإثباته
كتابة أو نحوها . والفائدة العملية من هذا التمييز أن الكتابة إذا كانت لازمة
لإثبات ( ad probatinum ) فإن العقد غير المكتوب يجوز إثباته بالإقرار أو اليمين . أما
إذا كانت الكتابة ركناً شكلياً في العقد ( ad solennitatem ) فإن العقد
غير المكتوب يكون غير موجود حتى مع الإقرار أو اليمين .
48 - العقد الشكلي : هو ما لا يتم بمجرد تراضي
المتعاقدين ، بل يجب لتمامه فوق ذلك إتباع شكل مخصوص يعينه القانون .
وأكثر ما يكون هذا . الشكل ورقة رسمية يدون فيها العقد . ولم يبق في
القانون الحديث إلا عدد قليل من العقود الشكلية ، الغرض من استبقاء شكليتها
هو في الغالب تنبيه المتعاقدين إلى خطر ما يقدمون عليه من تعاقد ، كما في
الهبة والرهن ( [4]
) .
وقد تقدمت الإشارة إلى أن العقود بدأت تكون شكلية في
القديم ، وتطورت بعد ذلك إلى أن صار أكثرها رضائياً والقليل هو الشكلي .
وتختلف الشكلية الحديثة عن الشكلية القديمة في إنها أكثر مرونة . وتختلف عنها
أيضاً ، وبوجه خاص ، في إنها لا تكفي وحدها في تكوين العقد .
فالشكلية الحديثة ، إذا كانت لازمة ، فهي ليست بكافية ، بل لا بد
أن تقترن بإرادة المتعاقدين . فالإرادة هي التي يقع عليها الشكل . أما
الشكلية القديمة فكانت وحدها هي التي تكون العقد ، لذلك كان لا يجوز الطعن
فيها بالغلط أو التدليس أو الإكراه أو غير ذلك من الدفوع الموضوعية . فالشكلى
إذن كان هو العقد لا الإرادة ( [5]
) .
49 – العقد العيني : هو عقد لا يتم بمجرد التراضي ،
بل يجب لتمام العقد فوق ذلك تسليم العين محل التعاقد . ولا يكاد يوجد في
القانون المدني الجديد مثل للعقد العيني إلا هبة المنقول ، فهذه قد تكون
عقداً شكلياً إذا تمت بورقة رسمية ، وقد تكون عقداً عينياً إذا تمت بالقبض ( م
488 من القانون المدني الجديد ) . ولكن ليس هناك ما يمنع من أن يتفق المتعاقدان
على أن العقد لا يتم إلا إذا قام أحدهما بتنفيذ شطر من التزامه . ففي عقود
التأمين يشترط أحياناً إلا يتم العقد إلا بعد أن يدفع المؤمن له القسط الأول ،
والشرط صحيح في هذه الحالة ، ويكون العقد عينياً ولكن العينية هنا مصدرها
الاتفاق لا القانون .
أما القانون المدني القديم فكان يسير على نهج القانون
الفرنسي ، ويجعل إلى جانب هبة المنقول عقوداً عينية أخرى أربعة : القرض
والعارية والوديعة ورهن الحيازة . وكلا القانونين ورث عينية هذه العقود
الأربعة عن القانون الروماني دون مبرر . فقد كانت هذه العينية مفهومة في
القانون الروماني حيث كانت العقود في الأصل شكلية . ثم استغنى عن الشكل
بالتسليم في بعض العقود ، وهذه هي العقود العينية . ولم يسلم بأن
التراضي وحده كاف لانعقاد العقد إلا في عدد محصور من العقود سمي بالعقود الرضائية .
أما اليوم فقد أصبح التراضي ، كقاعدة عامة ، كافياً لانعقاد العقد ،
فلم يعد هناك مقتضى لإحلال التسليم محل الشكل . وقد قللت بعض التقنينات
الحديثة عدد هذه العقود العينية ، فاستبقى القانون الألماني منها القرض ورهن
الحيازة ، ولم يستبق قانون الالتزامات السويسري إلا رهن الحيازة وحده .
2 - العقد المسمى والعقد
غير المسمى
50 – العقد المسمى : هو ما خصصه القانون باسم معين وتولى
تنظيمه لشيوعه بين الناس في تعاملهم . والعقود المسماة في القانون الجديد إما
أن تقع على الملكية ، وهي البيع والمقايضة والهبة والشركة والقرض والصلح ،
وإما أن تقع على المنفعة وهي الإيجار وعارية الاستعمال . وإما أن تقع على
العمل وهي المقاولة والتزام المرافق العامة وعقد العمل والوكالة والوديعة والحراسة .
ويضاف إلى ذلك عقود الغرر وهي المقامرة والرهان والمرتب مدى الحياة وعقد التأمين ،
ثم عقود التأمينات الشخصية والعينية وهي الكفالة والرهن الرسمي ورهن الحيازة .
ويلاحظ أن العقد المسمى ، في غير النصوص التفصيلية
التي تولت تنظيمه ، يخضع للقواعد العامة التي يخضع لها سائر العقود .
51 – العقد غير المسمى : هو ما لم يخصه القانون باسم
معين ولم يتولى تنظيمه ، فيخضع في تكوينه وفي الآثار التي تترتب عليه للقواعد
العامة التي تقررت لجميع العقود ، شأنه في ذلك شأن العقد المسمى . ولكنه
لما كان أقل شيوعاً لم يفصل المشرع أحكامه اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ( [6]
) .
وتتفاوت التقنينات فيما تسميه من العقود وتفصل أحكامه .
وقد كان القانون المدني القديم لا ينظم عقد التزام المراق العامة ولا المقامرة
والرهان ولا عقد التأمين ، ويقتضب اقتضابا مخلا تنظيم عقود المقاولة والعمل
والحراسة . فعالج القانون الجديد هذه الأمور . ولا زالت هناك عقود غير
مسماة صالحة لأن تنظيم فتصبح عقوداً مسماة كعقد النشر وعقد التوريد وعقد الأشغال
العامة وعقد النزول في الفندق .
ومن الأمثلة على العقود غير المسماة أن يتفق شخص مع آخر
على أن يثبت له ميراثاً يستحقه وأن ينفق على هذا العمل في نظير جزء من هذا الميراث
يأخذه إذا وفق في إثبات الإرث ( contrat de
revelation de suecession ) ، وأن يتفق شخص مع آخر على أن يبيع الأول
شيئاً مملوكاً للثاني وأن يعجل له مبلغاً معيناً وما زاد من الثمن على هذا المبلغ
يحتفظ به لنفسه . والعقد بين مدير المسرح والممثلين ، وبينه وبين الظارة ،
واتفاق إدارة إحدى المستشفيات مع مدرسة طبية على أن يضع المستشفى تحت تصرف المدرسة
بعضاً من الأسرة تستخدم للتعليم الطبي ، واتفاق التاجر مع صاحب مصرف على أن
يقدم له معلومات عن الحالة المالية لتاجر آخر ، والعقد بين المصور أو الرسام
مع الشخص الذي يصوره أو يرسمه ، كل هذه عقود غير مسماة ( [7]
) .
2-
العقد البسيط والعقد المختلط
52 – العقد البسيط : هو ما اقتصر على عقد واحد ولم يكن
مزيجاً من عقود متعددة . وقد يكون العقد البسيط عقداً مسمى كالبيع والإيجار ،
كما يكون عقدا غير مسمى كالعقد الذي توضع بمقتضاه أسرة تحت تصرف مدرسة طبية .
53 – العقد المختلط : هو ما كان مزيجا من عقود متعددة
اختلطت جميعاً فأصبحت عقداً واحدا . مثل ذلك العقد بين صاحب الفندق والنازل
في ( contrat
d'hotellerie ) ، فهو مزيج من عقد إيجار بالنسبة إلى المسكن ،
وبيع بالنسبة إلى المأكل ، وعمل بالنسبة إلى الخدمة ، ووديعة بالنسبة
إلى الأمتعة .
وليس هناك من أهمية كبيرة في امتزاج عدة عقود في عقد
مختلط . فإن هذا العقد إنما تطبق عليه أحكام العقود المختلفة التي يشتمل
عليها . على أن قد يكون من المفيد في بعض الأحيان أن يؤخذ العقد المختلط
كوحدة قائمة بذاتها ، وذلك إذا تنافرت الأحكام التي تطبق على كل عقد من
العقود التي يتكون منها . ففي هذه الحالة يجب تغليب أحد هذه العقود باعتباره
العنصر الأساسي ، كما في عقد التليفون ، وهو يدور بين عقد العمل
والإيجار ، فغلب القضاء المصري فيه عنصر عقد العمل ورفض دعوى استرداد الحيازة
التي رفعها مشترك قطعت عنه المواصلة التليفونية ( [8]
) ، وكما في العقد الموصوف بأنه إيجار ابتداء وبيع انتهاء ( location – vente ) ، وهو يدور
بين البيع والإيجار ، فحسم القانون الجديد ( م 430 ) النزاع في شأنه وجعله
بيعاً .
4 - العقد الملزم للجانبين
والعقد الملزم لجانب واحد
54 – العقد الملزم للجانبين : هو العقد الذي ينشيء
التزامات متقابلة في ذمة كل من المتعاقدين ، كالبيع يلتزم البائع فيه بنقل
ملكية المبيع في مقابل أن يلتزم المشتري بدفع الثمن . والظاهرة الجوهرية في
العقد الملزم للجانبين هو هذا التقابل القائم ما بين التزامات أحد الطرفين
والتزامات الطرف الآخر .
55 – العقد الملزم لجانب واحد : هو العقد الذي لا ينشيء
التزامات إلا في جانب أحد المتعاقدين فيكون مدينا غير دائن ، ويكون المتعاقد
الآخر دائناً غير مدين . مثل ذلك الوديعة غير المأجورة يلتزم بمقتضاها المودع
عنده نحو المودع أن يتسلم الشيء المودع وأن يتولى حفظه وأن يرده عيناً ، دون
أن يلتزم المودع بشيء نحو المودع عنده .
والعقد الملزم لجانب واحد ( contrat unilateral ) هو كسائر
العقود لا يتم إلا بتوافق إرادتين . وهذا بخلاف العمل القانونين الصادر من
جانب واحد ( acte
juridique unilateral ) فإنه يتم بإرادة واحدة ويكون التعبير بلفظ "
جانب واحد " ( unilateral ) إذا اقترن بالعقد يعتبر فيه اثر العقد لا تكوينه ، وإذا اقترن
بالعمل القانونين يلحظ فيه تكوين العمل القانوني لا أثره .
56 – أهمية هذا التقسيم : ولهذا التقسيم أهمية كبيرة
ترجع إلى أن العقد الملزم للجانبين ينشيء التزامات متقابلة ، وهذا التقابل ( interdependence ) يؤدى إلى
نتائج هامة لا نراها في العقد الملزم لجانب واحد حيث لا وجود للتقابل . ونذكر
من هذه النتائج ما يأتي :
( 1 ) في العقد
الملزم للجانبين إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ ما في ذمته من التزام كان
للمتعاقد الآخر أن يفسخ العقد . وهذا ما يسمي عادة بالشرط الفاسخ الضمني ( condition resolutoire tacite , lex commissoria ) ، إذ هو شرط مفهوم في كل عقد ملزم للجانبين ( أنظر المادة 157 من
القانون المدني الجديد ) أما في العقد الملزم لجانب واحد كالوديعة فلا محل لهذا
الفسخ ، لأن المقصود منه هو أن يتحلل الطرف الآخر من التزامه ولا التزام عليه
حتى يطلب التحلل منه ، فبقى أن يطلب تنفيذ الالتزام الثابت في ذمة الطرف
الأول ( [9]
) .
( 2 ) في العقد
الملزم للجانبين إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ ما في ذمته من التزام كان
للمتعاقد الآخر ، بدلا من أن يطلب فسخ العقد ، أن يمتنع عن تنفيذ
التزامه . فإذا طولب بالتنفيذ دفع دفع بوقفه حتى يقوم الطرف الأول بتنفيذ
التزامه هو ( أنظر المادة 161 من القانون المدني الجديد ) . وهذا ما يسمونه بالدفع
بعدم تنفيذ العقد ( exception non
adimpleti contractus ) . أما في العقد الملزم لجانب واحد فلا محل
لهذا الدفع ، لأن المتعاقد الآخر لم يتعلق في ذمته التزام حتى يطلب وقف
تنفيذه .
( 3 ) في العقد
الملزم للجانبين يطبق المبدأ القاضي بأن تحمل التبعة ( risqué ) يكون على المتعاقد الذي استحال تنفيذ التزامه .
ويتخلص هذا المبدأ في أنه إذا استحال على أحد المتعاقدين تنفيذ التزامه لسبب خارج
عن إرادته فإن الالتزام ينقضي بسبب استحالة التنفيذ ، وينقضي مع الالتزام
المقابل له ، فينفسخ العقد من تلقاء نفسه ( أنظر المادة 159 من القانون
المدني الجديد ) . ويكون المتعاقد الذي استحال تنفيذ التزامه قد تحمل تبعة هذه
الاستحالة . أما في العقد الملزم لجانب واحد فإن الذي يتحمل التبعة هو
المتعاقد الآخر لا المتعاقد الذي استحال تنفيذه التزامه . ذلك لأن هذا
المتعاقد ينقضي التزامه بسبب استحالة تنفيذه ، ولا يعوض المتعاقد الآخر عن
ذلك شيئاً لأنه لم يتعلق في ذمته التزام مقابل يسقط بسقوط الالتزام الأول ،
فيكون هو الذي تحمل التبعة .
( 4 ) في العقد
الملزم للجانبين يعتبر التزام أحد المتعاقدين سبباً ( cause ) لالتزام المتعاقد الآخر وفقاً للنظرية
التقليدية في السبب ، وذلك للتقابل القائم ما بين الالتزامين . أما في
العقد الملزم لجانب واحد فلا يوجد التزام مقابل يمكن اعتباره سبباً .
57 – العقد الملزم للجانبين غير التام contrat synallagma tique imparfait ) وكان القانون الروماني يعرف نوعا من العقود هو وسط بين العقد الملزم
للجانبين والعقد الملزم لجانب واحد ، وكان يسميه بالعقد الملزم للجانبين غير
التام . وهو عقد ملزم في الأصل لجانب واحد ، ولكن الجانب الآخر يلتزم
بعد نشوء العقد بسبب غير العقد ، وذلك كالوديعة إذا التزم المودع بتعويض ما
أصاب المودع عنده من الضرر بسبب الشيء المودع أو برد المصروفات الضرورية التي
أنفقت في حفظ الشيء من الهلاك .
والصحيح أن العقد الملزم للجانبين غير التام إنما هو عقد
ملزم لجانب واحد . وما عسى أن ينشأ من التزام بعد ذلك في جانب الدائن لم ينشأ
من العقد ، بل هو التزام مصدره سبب آخر : العمل غير المشروع في حالة التعويض
عن الضرر ، والإثراء بلا سبب في حالة رد المصروفات الضرورية . ولقد كان
هذا التقسيم مفهوماً في القانون الروماني لأن العقود الملزمة للجانبين ودها هي
التي كانت تعتبر في هذا القانون عقوداً يجب توافر حسن النية في تنفيذها ( de bonne foi ) ، أما العقود الملزمة لجانب واحد فكانت تعتبر
عقوداً حرفية التنفيذ ( de droit
street
) . فكان من المفيد أن توصف العقود الملزمة لجانب واحد بأنها
عقود ملزمة للجانبين ولو على نحو غير تام حتى يتيسر اشتراط حسن النية في التنفيذ .
ولكن هذه الفكرة الرومانية لم تعد قائمة في القانون الحديث ، وأصبحت كل
العقود – سواء كانت ملزمة للجانبين أو ملزمة لجانب واحد – يجب أن يتوافر في
تنفيذها حسن النية . فلم تعد هناك فائدة في أن تتسم العقود الملزمة لجانب
واحد بسمة العقود الملزمة للجانبين .
5 – عقد المعاوضة وعقد
التبرع
58 – عقد المعاوضة : هو العقد الذي يأخذ فيه كل من
المتعاقدين مقابلا لما اعطاه . فالبيع عقد معاوضة بالنسبة إلى البائع لأنه
يأخذ الثمن في مقابل إعطاء المبيع ، وبالنسبة إلى المشتري لأنه يأخذ المبيع
في مقابل إعطاء الثمن . والقرض بفائدة عقد معاوضة بالنسبة إلى المقرض ،
لأنه يأخذ الفوائد في مقابل إعطاء الشيء لأجل ، وبالنسبة إلى المقترض لأنه يأخذ
الشيء لأجل في مقابل إعطاء الفوائد . وعقد الكفالة معاوضة بالنسبة إلى الدائن
المكفول ، لأنه أخذ كفالة في مقابل إعطاء الدين ، وهو بالنسبة إلى
الكفيل يكون تبرعاً إذا لم يأخذ أجراً على كفالته إذ يكون قد أعطى دون أن يأخذ .
ومن ذلك يتضح أن العقد الواحد قد يكون معاوضة بالنسبة إلى أحد المتعاقدين وتبرعا "
بالنسبة إلى المتعاقد الآخر ، ذلك لأن المعاوضة لا يشترط فيها أن يكون
المعاوض قد أعطى المقابل للمتعاقد الآخر ، كما أن التبرع لا يشترط فيه أن
يكون المتبرع قد تبرع للمتعاقد الآخر .
59 – عقد التبرع : هو العقد الذي لا يأخذ فيه المتعاقد
مقابلا لما أعطاه ، ولا يعطي المتعاقد الآخر مقابلا لما أخذه . فالعارية
عقد تبرع بالنسبة إلى المعير لأنه لا يأخذ شيئاً من المستعير في مقابل الشيء
المعار ، وبالنسبة إلى المستعير لأنه لا يعطي شيئاً للمعير في مقابل الانتفاع
بالشيء المعار . وكذلك الهبة دون عوض والقرض والوديعة والوكالة ، إذا
كانت هذه العقود الثلاثة دون مقابل ، كلها عقود تبرع على النحو الذي قدمناه .
ومن ذلك يتبين أن العقود الملزمة للجانبين بعضها معاوضة كالإيجار ، وبعضها
تبرع كالعارية . كذلك العقود الملزمة لجانب واحد بعضها تبرع كالهبة دون عوض ،
وبعضها معاوضة كالكفالة إذا أخذ الكفيل أجراً من المدين .
ومن المفيد أن نميز في عقود التبرع بين عقود التفضل
والهبات . فعقود التفضل ( actes de
bienfaisance ) يولي المتبرع فيها المتبرع له فائدة دون أن
يخرج عن ملكية ماله . فالعارية عقد تفضل لأن المعير يتبرع بمنفعة العين دون
أن يخرج عن ملكيتها . والوديعة عقد تفضل لأن المودع عنده يتبرع بعمله لا
بماله . أما الهبات ( actes de
liberalite ) فيخرج فيها المتبرع عن ملكية ماله ، كعقد
الهبة يخرج فيها الواهب عن ملكية الموهوب . ويتبين من ذلك أن الهبات اشد خطورة
من عقود التفضل ، ولذلك تحوط المشرع فاشترط في الهبة شكلا خاصاً .
60 – أهمية هذا التقسيم : والتمييز بين عقد التبرع –
تفضلا كان أو هبة – وعقد المعاوضة له نتائج هامة ، نذكر منها ما يأتي :
( 1 ) تكون
مسئولية المتبرع اخف عادة من مسئولية المعاوض ، فمسئولية المودع عنده أيسر من
مسئولية المستأجر . كما أن مسئولية المتبرع له اشد عادة من مسئولية المعاوض ،
فمسئولية المستعير اشد من مسئولية المستأجر . فهذه العقود الثلاثة – الوديعة
والإيجار والعارية – تتفاوت فيها مسئولية المتعاقدين قوة وضعفاً ، وتتدرج من
الضعف إلى القوة طبقاً لماذاا كان المتعاقد يتبرع كالمودع عنده ، أو يعاوض
كالمستأجر ، أو يتلقى التبرع كالمستعير .
( 2 ) الغلط في
الشخص يؤثر في عقود التبرع . وهو لا يؤثر في عقود المعاوضة إلا إذا كان شخص
المتعاقد محل اعتبار ، كما في الشركة والمزارعة .
( 3 ) يجوز
الطعن في عقود التبرع بالدعوى البوليصية دون حاجة إلى إثبات سوء نية من تلقى
التبرع . فإذا وهب المدين المعسر آخر شيئاً من ماله ، جاز للدائن الطعن
في هذا التصرف ولو لم يثبت سوء نية الموهوب له . أما في عقود المعاوضة كالبيع ،
فلا بد من إثبات سوء النية .
6 - العقد المحدد والعقد
الاحتمالي
61 – العقد المحدد : هو العقد الذي يستطيع فيه كل من
المتعاقدين أن يحدد وقت تمام العقد القدر الذي أخذ والقدر الذي أعطى ، حتى لو
كان القدران غير متعادلين . فبيع شيء معين بثمن معين عقد محدد ، سواء
كان الثمن يعادل قيمة المبيع أو لا يعادله ما دامت قيمة المبيع ومقدار الثمن يمكن
تحديدهما وقت البيع .
62 – العقد الاحتمالي : هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل
من المتعاقدين أن يحدد وقت تمام العقد القدر الذي أخذ أو القدر الذي أعطى ،
ولا يتحدد ذلك إلا في المستقبل تبعاً لحدوث أمر غير محقق الحصول أو غير معروف وقت
حصوله . فالبيع بثمن هو إيراد مرتب مدى الحياة عقد احتمالي ، لأن البائع
وإن كان يعرف وقت البيع القدر الذي أعطي لا يستطيع أن يعرف في ذلك الوقت القدر
الذي أخذه ، إذ الثمن لا يتحدد إلا بموته والموت أمر لا يعرف وقت حصوله .
والمشتري أيضاً كالبائع يباشر عقداً احتمالياً ، فهو يعرف القدر الذي أخذه ،
ولكنه لا يعرف القدر الذي أعطي وهو الثمن الذي لا يمكن تحديده وقت البيع لما سبق
بيانه . ومن العقود الاحتمالية الشائعة عقود التأمين وعقود الرهان والمقامرة (
[10]
) .
هذا وقد يظن لأول وهلة أن تقسيم العقد إلى محدد واحتمالي
لا يكون إلا في عقود المعاوضة ، وليس في عقود التبرع إلا عقود محددة .
ولكن الصحيح أن عقد التبرع قد يكون احتمالياً إذا كان الموهوب له لا يستطيع أن
يحدد وقت تمام العقد القدر الذي يأخذ ، كما إذا وهب شخص لآخر إيراداً مرتباً
طول حياته .
63 – أهمية هذا التقسيم : والتمييز بين العقد المحدد
والعقد الاحتمالي له أهمية كبيرة من الناحية الاقتصادية . أما من الناحية
القانونية فأهميته محدودة . ومن أهم نتائجه أمران :
( 1 ) أساس
العقود الاحتمالية هو ذلك الاحتمال ( alea ) في المكسب أو الخسارة . فلو أتضح أن هذا
الاحتمال غير موجود في الواقع ، وإن حسبه المتعاقدان موجوداً ، فالعقد
باطل ، كما إذا باع شخص منزلا بإيراد يعطي لشخص ثالث طول حياته ، فإذا
بهذا الشخص قد مات قبل وقوع البيع .
( 2 ) لا يؤثر
الغبن عادة في العقود الاحتمالية ، لأن الأساس الذي بنيت عليه هذه العقود هو
كما تقدم غبن احتمالي يتحمله أحد المتعاقدين ( [11]
) .
7 - العقد الفوري والعقد الزمني ( [12]
)
64 – العقد الفوري : هو العقد الذي لا يكون الزمن عنصراً
جوهرياً فيه ، فيكون تنفيذه فورياً ولو تراخي التنفيذ إلى أجل أو إلى آجال
متتابعة .
فبيع شيء يسلم في الحال بثمن يدفع في الحال عقد فوري ،
لأن عنصر الزمن هنا معدوم ، إذ أن كلا من المبيع والثمن يسلم في الحال ،
فهو عقد فوري التنفيذ .
وقد يكون البيع بثمن مؤجل ويبقي مع ذلك فورياً .
ذلك لأن الزمن إذا كان قد تدخل هنا فهو عنصر عرضي لا دخل له في تحديد الثمن (
[13]
) . فالبيع بثمن مؤجل عندما يحين وقت تنفيذه ، يكون فوري التنفيذ .
وليس الأجل إلا موعداً يتحدد به وقت التنفيذ ، ولا يتحدد به مقدار الثمن .
وقد يكون البيع بثمن مقسط ويبقى مع ذلك فورياً . إذ
الثمن الذي يدفع أقساطاً ليس إلا ثمناً مؤجلا إلى آجال متعددة . وليست هذه
الآجال إلا عناصر عرضية في العقد لا يتحدد بها مقدار الثمن . ويكون العقد في
هذه الحالة فوري التنفيذ ، جزءاً جزءاً ، عندما يحين وقت التنفيذ لكل
جزء منه .
وقد يكون الأجل الذي يضرب للتنفيذ إجبارياً ، لا
اختيارياً كما في الأمثلة المتقدمة ، ويبقي مع ذلك عنصراً عرضياً لا يتحدد به
المحل المعقود عليه ، فيكون العقد في هذه الحالة فوري التنفيذ . مثل ذلك
النجار يتفق مع العميل على أن يصنع له دولاباً . فصنع الدولاب لا بد أن
يستغرق زمناً ، ولكن هذا الزمن – وهو أجل إجباري – لا يتحدد به محل العقد .
والأجل الإجباري هنا كالأجل الاختياري هناك ، كلاهما عنصر عرضي لا يقاس به
المعقود عليه . ويكون عقد الاستصناع في المثل الذي قدمناه فوري التنفيذ عند
ما يحين وقت تنفيذه ، أي بعد أن يتم صنع الدولاب .
ويتبين مما تقدم أن العقد الفوري يتحدد محله مستقلا عن
الزمن ، وأن الزمن إذا تدخل فيه فإنما يتدخل عنصراً عرضياً لا عنصراً جوهرياً ،
لتحديد وقت التنفيذ لا لتحديد المحل المعقود عليه . ذلك أن محل العقد الفوري –
أرضا كان أو بناء أو عرضواً أو نقداً أو غير ذلك – إنما يمتد في المكان لا في
الزمان ، أي أن له جرماً إذا هو قيس فإنما يقاس يجيز مكاني لا بمقياس زماني ،
أو هو – كما يقول الدكتور عبد الحي حجازي في رسالته المعروفة – حقيقة مكانية لا
حقيقة زمانية . وإنما سمي بالعقد الفوري ، ولم يسم بالعقد المكاني ،
لأن الظاهرة الجوهرية فيه ليست هي في إثبات المكان له ، بل في نفي الزمان عنه .
65 – العقد الزمني : هو العقد الذي يكون الزمن عنصراً
جوهرياً فيه ، بحيث يكون هو المقياس الذي يقدر به محل العقد . ذلك أن
هناك أشياء لا يمكن تصورها إلا مقترنة بالزمن . فالمنعة لا يمكن تقديرها إلا
بمدة معينة . والعمل إذا نظر إليه في نتيجته ، أي إلى الشيء الذي ينتجه
العمل ، كان حقيقية مكانية ، ولكن إذا نظر إليه في ذاته فلا يمكن تصوره
إلا حقيقة زمانية ، مقترناً بمدة معينة .
ومن ثم فعقد الإيجار عقد زمني لأنه يقع على المنفعة ،
والزمن عنصر جوهري فيه لأنه هو الذي يحدد مقدار المنعفة المعقود عليها . وعقد
العمل لمدة معينة ، عقد زمني ، لأن الخدمات التي يؤديها العامل لا تقاس
إلا بالزمن ، فالزمن عنصر جوهري فيه إذ هو الذي يحدد مقدار المحل المعقود
عليه .
وهناك من الأشياء ما يتحدد في المكان فيكون حقيقة مكانية ،
ولكن المتعاقدين يتفقان على تكرار أدائه مدة من الزمن لسد حاجة تتكرر . فهو
في ذاته يقاس بالمكان ، ولكن المتعاقدين اتفقا على أن يقاس بالزمان .
مثل ذلك عقد التوريد ، يلتزم به أحد المتعاقدين أن يورد للمتعاقد الآخر شيئاً
معيناً يتكرر مدة من الزمن . فمحل ا لعقد هنا – وهو الشيء المعين الذي اتفق
على توريده – يقاس في ذاته بالمكان ، ولكن المتعاقدين اتفقا على أن يتكرر
مرات مدة من الزمن ، فجعلاه يقاس ، كالمنفعة والعمل ، بالزمان لا
بالمكان . فالمعقود عليه في كل من عقد الإيجار وعقد التوريد هو الزمن ،
أو هو شيء يقاس بالزمن . ولكن المعقود عليه في عقد الإيجار يقاس بالزمن طبيعة ،
أما المعقود عليه في عقد التوريد فيقاس بالزمن اتفاقاً .
ومن ثم ينقسم العقد الزمني إلى عقد ذي تنفيذ مستمر ( contrat a exe cution continue ) كعقد
الإيجار وعقد العمل لمدة معينة ، وعقد ذي تنفيذ دوري ( contrat a execution periodique ) كعقد
التوريد وعقد الإيراد المؤبد أو الإيراد مدى الحياة .
66 – أهمية هذا التقسيم : ترجع خصائص العقد الزمني إلى
فكرة جوهرية هي أن المعقود عليه في هو الزمن . والزمن إذا مضي لا يعود .
فإذا نفذ العقد الزمني حيناً من الزمن ، وأريد لسبب أو لآخر الرجوع في العقد
استحال ذلك ، فإن الفترة من الزمن الذي نفذ فيها العقد قد انقضت ، وما نفذ
من العقد أصبح تنفيذه نهائياً لا يمكن الرجوع فيه . أما العقد الفوري فلا
يقوم على الزمن ، وإذا نفذ في جزء منه جاز الرجوع فيما تم تنفيذه .
ويترتب على هذا الفرق الجوهري فيما بين العقد الزمني والعقد الفوري نتائج هامة ،
نذكر منها ما يأتي :
( 1 ) الفسخ في
العقد الفوري ينسحب أثره على الماضي ، لأنه يجوز الرجوع فيه . أما الفسخ
في العقد الزمني فلا ينسحب أثره على الماضي لأن ما نفذ منه لا يمكن إعادته .
( 2 ) إذا وقف
تنفذ العقد الفوري ، فإن هذا الوقف لا يؤثر في التزامات المتعاقدين من حيث
الحكم بل تبقى هذه الالتزامات كاملة كما كانت قبل الوقف . أما العقد الزمني
فوقف تنفيذه يترتب عليه النقص في كمه وزوال جزء منه ، إذ تمحي آثاره في خلال
المدة التي وقف تنفيذه فيها . لأن هذه المدة لا يمكن تعويضها بعد أن فاتت بل
قد يترتب على وقف العقد الفوري انتهاؤه إذا كانت مدة الوقف تزيد على المدة المحددة
للعقد أو تساويها .
( 3 ) العقد
الزمني تتقابل فيه الالتزامات تقابلا تاما ًن لا في الوجود فحسب بل أيضاً في
التنفيذ ، فما تم منها في جانب يتم ما يقابله في الجانب الآخر . ففي عقد
الإيجار الأجرة تقابل الانتفاع ، فإذا انتفع المستأجر مدة معينة التزم بدفع
الأجرة بقدر المدة التي انتفع فيها . أما في العقد الفوري فإن التقابل إذا
كان تاماً في الوجود فهو غير تام في التنفيذ . ففي عقد البيع بثمن مقسط إذا
تقابل المبيع والثمن من حيث الوجود ، فليس من الضروري أن يتقابلا من حيث
التنفيذ ، ويجوز أن يدفع المشتري أقساطاً من الثمن لا يأخذ ما يقابلها من
المبيع ، ويلجأ إلى فسخ البيع فيسترد ما دفعه من الثمن .
( 4 ) الإعذار
شرط لاستحقاق التعويض في العقد الفوري في أكثر الأحوال . أما في العقد الزمني
فالاعذار ليس بضروري إذا تاخر الملتزم عن تنفيذ التزامه الزمني ، لأن ما تأخر
فيه لا يمكن تداركه لفوات الزمن ، فلا فائدة ترتجي من الإعذار .
( 5 ) العقد
الزمني لا يمكن إلا أن يكون ممتداً مع الزمن ، وبقدر ما يمتد يكون تغير
الظروف محتملا ، ومن ثم كانت العقود الزمنية هي المجال الطبيعي لنظرية الظروف
الطارئة . أما العقود الفورية فلا يمكن أن تنطبق عليها هذه النظرية إلا إذا
كان تنفيذها مؤجلا ( [14]
) .
67 – ترتيب البحث في العقد : الآن وقد فرغنا من التمهيد
للكلام في العقد ، ننتقل إلى البحث فيه . ونرتب البحث على النحو الذي
سار عليه القانون المدني الجديد ، فنتناول في فصول ثلاثة :
1 - أركان العقد .
2 - آثار العقد .
3 - انحلال العقد .
ليست هناك تعليقات