ads header

أخبار الموقع

القانون المدني / الدكتور /عبدالرازق السنهوري / شرح مصادر الالتزام


الالتزامات بوجه عام

كلمة تمهيدية

فى التعريف بالالتزام

* * *

1 - تحديد مركز الالتزام فى القانون المدنى

 1 - أقسام القانون المدنى : ينقسم القانون المدنى - وهو القانون الذي ينظم علاقات الأفراد ببعضها ببعض - إلي قسمين رئيسين : قسم الأحوال الشخصية وقسم المعاملات .
فقواعد الأحوال الشخصية هى التى تنظم علاقة الفرد بأسرته . وقواعد المعاملات هى تنظم علاقة الفرد بغيره من الأفراد من حيث المال .
والمال فى نظر القانون يتكون من حقوق .
والحق في المعاملات مصلحة ذات قيمة مالية يقرها القانون للفرد . وهو إما حق العينى أو حق شخصى .
والحق الشخصى هو الالتزام : ويسمي حقاً إذا نظر إليه من جهة الدائن ، وديناً إذا نظر إليه من جهة المدين .
2 - الحق العينى والحق الشخصى : الحق العينى ( ( droit reel هوسلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شىء معين . أما الحق الشخصى ( ( droit personnel فهو رابطة مابين شخصين ، دائن ومدين ، يخول الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شىء أو بالقيام بعمل بالامتناع عن عمل .
ولازال التمييز ما بين الحق العينى والحق الشخصى من أهم المسائل الرئيسية فى القانون المدني . ولم تجد محاولات بعض الفقهاء فى هدم هذا التقسيم . وهؤلاء الفقهاء فريقان : فريق يقرب الحق العينى من الحق الشخصى ، وفريق لآخر على النقيض من ذلك يقرب الحق الشخصي من الحق العينى .
3 - تقريب الحق العينى من والحق الشخصى : أما الفريق الأول ، وعلى رأسهم الأستاذ بلانيول ، فيرى أن الحق العينى هو كالحق الشخصي رابطة مابين شخصين . لأن القانون إنما ينظم الروابط ما بين الأشخاص . ولا يمكن أن يقال فى الحق العينى إنه رابطة مابين الشخص والشيء ، لأن الرابطة إنما تكون بين الشخص والشخص . ففى هذا إذن يتفق الحق العينى مع الحق الشخصى . ويتفق معه أيضاً على أنه يشتمل مثله على عناصر ثلاثة : موضوع الحق والدائن هو المالك ، والمدين هم الناس كافة غذ يجب عليهم جميعاً احترام هذا الحق . فالحقان إذن يتماثلان من حيث الطبيعة والعناصر . وإنما يختلفان في شيء غير جوهري هو جانب المدين .دائماً هم جميع الناس عدا الدائن ، ولهذا يمكن اعتبار الحق العينى حقا شخصياً عاماً من حيث المدين ( passivement universel ) . أما في الحق الشخصي فالمدين هو شخص أو أشخاص معينون بالذات .
هذا ما يقوله الفريق الأول . وظاهر أنهم يقصدون هدم التميز ما بين الحق العينى والحق الشخصي من وراء جعل الحق العينى هو الذي يماثل الحق الشخصى . ولا جدال في أنه من الخطأ أن يقال إن الحق العينى رابطة ما بين الشخص والشيء . فالرابطة لا توجد إلا بين الشخص والشخص كما يقول بلانيول . ولذلك قلنا في تعريف الحق العينى إنه " سلطة لشخص على شىء " ، ولم نقل إنه " رابطة ما بين شخص وشيء " . وأما القول بأن الحق العينى هن حق شخصي عام من حيث المدين ففيه مغالطة لا تخفى عند التعمق في النظر . إذا لحق الشخصي فيه أيضاً هذا الجانب العام من حيث المدين ، وتلزم الناس كافة باحترامه . فإذا أحل أحد بهذا الالتزام ، بأن حرض المدين مثلا على أن يمتنع عن القيام بما تعهد به ، كان مسئولا ووجب عليه التعويض . ولكن الحق الشخصى يزيد على الحق العينى شيئا جوهوياً يميزه عنه ، هو الجانب الخاص من حيث المدين إلي هذا الجانب العام الذي تقدم ذكره . ففى كل حق شخصى يوجد مدين معين ، أو مدينون معينون ، هم الذين يباشر الدائن سلطته على الشىء موضوع الحق بوساطتهم ، ولا وجود لهؤلاء فى الحق العينى . وهذا فرق جوهري ما بين الحقين تترتب عليه نتائج هامة سيأتي ذكرها ( [1] ) .
4 - تقريب الحق العينى من والحق الشخصى : وهناك الفريق الثاني وهو الذي يحاول هدم التمييز من وراء جعل الحق الشخصى كالحق العينى . وعلى رأس هذا الفريق الأستاذان سالي ( saleilles ) ولا مبير ( Lambrt ) . ويتلخص رأيهما فى أن الحق الشخصى هو كالحق العيني عنصر من عناصر الذمة المالية ( patrimoine ) يتصرف فيه صاحبه ، فيبيعه ويهبه ويرهنه ويجرى فيه سائر التصرفات . وقد حان الوقت الذي ينظر فيه إلي الحق الشخصى لا باعتبار أنه رابطة ما بين ، بل باعتبار أنه عنصر مالي ، وهذا ما يقتضيه تقدم المعاملات وسرعة تداول الأموال . فتتجرد القيمة المالية للحق الشخصى عن شخص الدائن وعن المدين ، وبذلك يقترب الحق الشخصى من الحق العينى . وهذا هو المذهب المادي فى الالتزام ، وسنعود إليه فيما يلى .
ونحن لا ننكر على المذهل المادي للالتزام انتشاره ومسايرته للتطور القانوني الحديث . لكننا مع ذلك لا نراه يهدم التمييز ما بين الحق العينى والحق الشخصى . فمن الممكن أن ينظر إلى الالتزام نظرة مادية باعتبار موضوعه لا باعتبار أشخاصه ، ويكون فى هذا تقريب بينه وبين الحق العينى . ولكن ذلك لا ينفى أن هناك فرقاً جوهرياً ما بين الحقين حتى إذا نظر إليهما معاً من حيث موضوعهما . فالدائن فى الحق العينى يستعمل سلطة عير مباشرة على موضوع الحق دون وسيط بينهما ، بخلاف الحق الشخصى فليس للدائن فيه إلا سلطة غير مباشرة على الشيء موضوع الحق ، ولا يستعمل هذه السلطة إلا بوساطة المدين .
5 - بقاء التمييز ما بين الحقين قائما : يبقى إذن التمييز ما بين الحق الشخصى والحق العيني قائماً بأهميته . فالحق العيني سلطة مباشرة للشخص على الشيء ، والحق الشخصي رابطة مابين شخصين . والظاهرة المهمة في الحق العيني هي تحديد الموضوع ، أما في الحق الشخصي فتحديد المدين . ويزيد الحق الشخصي على الحق العيني عنصراً أساسياً هو وجود مدين معين يباشر بوساطته الدائن سلطته على الشيء موضوع الحق .
6 - نتائج هذا التمييز : وهذا التمييز ما بين الحقين لا يزال تمييزا جوهرياً في كل القوانين التي اشتقت من القانون الروماني . وتترتب عليه نتيجتان هامتان : 1 - لما كان الحق العيني سلطة مباشرة على الشيء ، فلصاحبه حق تتبع هذا الشيء ( droit de suite ) في يد أي شخص انتقلت إليه ملكيته .
2 - وله أيضاً ، إذا كان الحق العيني حق ضمان كالرهن . أن يتقدم على جميع الدائنين الشخصيين في تقاضى حقه من الشيء ( droit de preference ) ، فإن هؤلاء ليست لهم إلا سلطة مباشرة على هذا الشيء ( [2] ) .

2 - المذهبان الشخصي والمادي في الالتزام

7 – الرابطة القانونية ما بين الدائن والمدين : تبين مما قدمناه أن الحق الشخصي ، أي الالتزام ، يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين ، ويسميها الرومان : juris vinculum .
ولم تثبت هذه الرابطة على حلا واحدة ، بل إنها تطورا . فكانت في أول أمرها سلطة تعطي للدائن على جسم الممدين العلى ماله ، وكان هذا هو الذي يميز بين الحق العيني والحق الشخصي ، فالأول سلطة تعطي للشخص على شيء ، والثاني سلطة تعطي للشخص على شخص آخر . وكانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة ، يدخل فيها حق الإعدام وحق الاسترقاق وحق التصرف . ثم تلطفت هذه السلطة فصارت مقصورة على التنفيذ البدني بحبس المدين مثلا . ولم يصل الدائن إلي التنفيذ على مال المدين إلا بعد تطور طويل . فأصبح للالتزام ، منذ عند الرومان ، مظهران : مظهر باعتباره رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين ، ومظهر باعتباره عنصراً مالياً يقوم حقاً لذمة الدائن ، ويترتب ديناً في ذمة المدين .
ولا يزال الالتزام محتفظاً بهذين المظهرين إلي الوقت الحاضر وإن اختلفت المذاهب فيه . فمذهب يغلب الناحية الخصية ، وهو المذهل الفرنسي التقليدي الموروث عن القانون الروماني ، ومذهل يعلب الناحية المالية وهو المذهل الألماني الحديث .
8 – المذهل الشخصي في الالتزام : أما المذهل الشخصي ( theorie subjective ) فيري الأمر الجوهري في الالتزام هو أنه رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين . وهذا ما حمل الأستاذ بلانيول على أن يزيد في تعريف الالتزام فكرة الرابطة الشخصية . فهو يعرف الالتزام بأنه علاقة قانونية ما بين شخصين بمقتضاها يكون لأحدهما وهو الدائن الحق فى تقاضي شيء معين من الآخر وهو المدين .
وأشهر من قال بالمذهب الشخصي من فقهاء الألمان سافيني ( savigny ) . فقد كان يري الالتزام رابطة شخصية تخضع المدين للدائن ، وقي صورة مصغرة من الرق . فالسلطة ( Herrschaft ) التي تمنح لشخص علي شخص آخر قد تستغرق حرية من يخضع لهذه السلطة ، وهذا هو الرق الكامل والملكية التامة . وقد لا تتناول السلطة إلا بعض هذه الحرية وإلا تمتد إلا إلي جزء من تشاط المدين ، فيترتب من ذلك حق للدائن فريب من حق الملكية ولكنه ليس إياها . فهو حق خاص بعمل معين من أعمال المدين ، وهذا ما نسميه بالالتزام . فالالتزام إذن هو سلطة معينة تمنح لشخص على شخص آخر . وتكون الملكية والالتزام في نظر سافيني شيئين من طبيعة واحدة ، ولا يختلفان إلا في الدرجة ، ففي الملكية يكون الخضوع كلياً ، وهو جزئي في الالتزام ، ولكنه موجود في الحالين .
9 – المذهب المادي في الالتزام : يتبين مما تقدم أن نظرية سافيني وهي مطبوعة بطابع القانون الروماني ، تجعل من الالتزام رابطة شخصية وثيقة ، رابطة خضوع قريب من الرق ، وتنسجها على طراز من حق الملكية .
هذه النظرية قام في وجهها فقهاء الألمان ، وعلى رأسهم جييرك ( Gierke ) ، وأبوا أن تستقر في الفقه الألماني بعد أن عملوا على تحرير قانونهم من النظريات الرومانية وغلبوا النظريات الجرمانية الأصل عليها . وقد بين جييرك أن الفكرة الجرمانية في الالتزام لا تقف عند الرابطة الشخصية كما كان الأمر في القانون الروماني ، بل تنظر إلي محل الالتزام وهو العنصر الأساسي ، وتجرده من الرابطة الشخصية ، حتى يصبح الالتزام عنصراً مالياً أكثر منه علاقة شخصية ، فينفصل الالتزام بذلك عن شخص الدائن وعن شخص المدين ، ويختلط بملحة فيصبح شيئاً ماديا العبرة فيه بقيمته المالية ( [3] ) . هذه هي النظرية المادية ( theorie objective ) للالتزام ، أم تقتصر علي ألمانيا ، فقد نشرها عي فرنسا نقلا عن المدرسة الألمانية سالي ( saleilles ) ، وهو يعتبر زعيم هذا المذهب في فرنسا ولو أن المذهب لم يسد في الفقه الفرنسي .
10 - النتائج العملية للمذهب المادي : وليس المذهب المادي مجرد مذهب نظري ، بل هو خصب في نتائجه الملية . فإن النظر إلي الالتزام باعتباره الاقتصادية في العصر الحاضر من تبسيط علي المعاملات وتيسير بها ، حني يكسب تداول الأموال مرونة تستلزمها هذه النظم ، بعد أن اشتدت حركة الإنتاج وانتشرت الصناعات الكبيرة . فالنظرية المادية تضعف الصلة ما بين محل الالتزام وشخصي الدائن والمدين . وينبني على هذا نتائج عملية هامة نذكر منها اثنتين :
 ( أولا ) لما كانت العبرة في الالتزام بمحله دون أشخاصه ، أصبح من السهل أن نتصور تغير أشخاص الالتزام ، ليس من دائن إلي آخر فحسب ، وهذا ما يسلم به التقيني الفرنسي ذاته مع أنه قد أخذ بالمذهب الشخصي ، بل أيضاً من مدين إلي آخر ، فيوجد إلي جانب حوالة الحق ( ( cession de creance حوالة الدين ( ( cession de dette . وهذا ما اعترفت به التقنينات المشبعة بالمذهب المادي ، كالتقنين الألماني والتقنين السويسري ، وعلى أثرهما سار التقنين المدني الجديد ، وقد ساير في ذلك الشريعة الإسلامية وقي تعترف بحوالة الدين . أما التقنين المدني القديم فكان على غرار القانون الفرنسي لا يعترف إلا بحوالي الحق .
 ( ثانياً ) لما كانت الرابطة الشخصية ليست هي الأمر الجوهري في الالتزام ، فمن الممكن أن نتصور وجود التزام دون دائن وقت نشوءه ، فيستند الالتزام إلي المدين وحده . ولو كانت الرابطة الشخصية قي العنصر الأول ، لما أمكن تصور التزام ينشأ دون أن يكون هناك وقت نشوئه دائن ومدين ،لأن الالتزام هو الرابطة الشخصية فيما بين هذين . فإذا لم يوجد أحدهما امتنع وجود هذه الرابطة , أما إذا أخذنا بالمذهب المادي أمكن تصور التزام يقع عبئاً في مال المدين دون أن يكون هناك دائن يقتضي المدين هذا العبء وقت وجود الالتزام ، ويكفي أن نوجد الدائن وقت التنفيذ ، ففي هذا الوقت فقط تظهر الضرورة في أن يتقدم دائن يستوفي المدين التزامه . ولاشك في أن تحليل الالتزام على هذا الوجه يفسر كثيراً من المسائل القانونية التي لا يمكن تفسيرها إذا تقدينا بالمذهب الشخصي . ونذكر من هذه المسائل ما يأتي :
 ( 1 ) التزام المدين بإرادته المنفردة لغير دائن معين : هناك حالات عملية نري فيها شخصاً يلتزم بمجرد إرادته لغير دائن معين . مثل ذلك شخص يعد بجائزة من عثر علي شيء ضائع . فالواعد هنا قد التزم بإرادته المنفردة ووجد الالتزام دون دائن ، وهو التحليل العلمي الصحيح ، لا يتفق إلا مع المذهب المادي ويستعصى على المذهب الشخصي الذي يأبي إلا أن يوجد الدائن وقت نشوء الالتزام .
 ( 2 ) نظرية الاشتراط لمصلحة الغير : إذا طبقت هذه النظرية في حالة عقد التأمين لمصلحة شخص غير معين أو شخص لما يوجد وقت نشوء الالتزام ، كما إذا أمن شخص على حياته لمصلحة أولاده ولم يكن له ولد وقت التأمين ، فإن الالتزام في هذه الحالة ينشأ دون أن وجد الدائن . ولا يمكن تفسير التزام مثل هذا إذا تقيدنا بالمذهب الشخصي . فلا يستطاع إذن تفسيره إلا طبقا للمذهل المادي .
 ( 3 ) السند لحامد : من يوقع هذا السند يلتزم لدائن عير معروف هو حامل السند . فهنا أيضاً نشأ الالتزام دون دائن ، ولا يفسر ذلك إلا المذهب المادي .
11 – تقرير المذهبين الشخصي والمادي : لا شك في أن النظرية المادية من شأنها أن تؤدي إلي نتائج عملية خطيرة الشأن أن تؤدي إلي نتائج عملية خطيرة الشأن رأينا جانباً منها ، وأدركنا كيف أنها تتمشي مع النظم الاقتصادية القائمة في الوقت الحاصر ومع سرعة تداول المال وتيسير سبل المعاملات . لذلك يجب الاحتفاظ بالمرونة التي يكسبها هذا المذهب لنظرية الالتزام .
على أنه لا يجوز في الوقت ذاته إغفال المذهل الشخصي . فلا يزال الالتزام رابطة فيما بين شخصين . ولا يزال لشخصية المدين والدائن أثر كبير في تكوين الالتزام وتنفيذه . فقد رأينا أنه لا بد من ودود طرفي الالتزام وقت التنفيذ على الأقل . وسنري أن نية الطرفين – وهذا شيء نفسي – يؤثر تأثيراً كبيراً في وجود الالتزام صحيحاً وفي تنفيذه على الوجه المطلوب . والنية قي السبيل الذي تتسرب منه العوامل الخلقية إلي القواعد القانونية . ونضيف إلي ما تقدم أن شخصية المدين بنوع خاص ضرورية في الالتزام ، لا عند تنفيذه فحسب ، بل أيضاً عند نشوئه ، وهذا ما يعترف به المذهل المادي ذاته . ووجود مدين معين في الالتزام إنما قو هذا ما يعترف به المذهب المادي ذاته . ووجود مدين معين في الالتزام إنما قو هذا الذي يقوم عليه الفرق الجوهري ما بين الحق الشخصي والحق العيني . فقد سبق أن أشرنا إلي أن سلطة الدائن على الشيء في الحق سلطة غير مباشرة يستعملها الدائن بواسطة المدين ، وهذا ما يجعل من غير المستطاع إغفال الرابطة الشخصية في الالتزام .
والتقنين المدني الجديد ، إذا كان قد أخذ من المذهل المادي نتائج علمية هامة ، لم يهجر في الوقت ذاته المذهل الشخصي ، بل استبقاه في كثير من آثاره . وقد سبقت الإشارة إلي ذلك .

3 – اختيار تعريف للالتزام

12 - القانون المدني القديم وتعريف القانون الفرنسي : بعد هذه النظرة العامة للالتزام يمكن الآن أن نختار تعريفاً له . ونذكر قبل ذلك تعريف القانون المدني القديم وتعريف القانون الفرنسي . فقد كانت المادتان 90 / 144 من القانون المدني القديم تنصان على أن " التعهد قو ارتباط قانوني الغرض منه هو حصول منفعة لشخص الغرض منه هو حصول منفعة لشخص بالتزام المتعهد بعمل شيء معين أو بامتناعه عنه " . والقانون القديم كان يسمي الالتزام " تعهداً " . ولفظ " الالتزام " أدق ، لأن التعهد قد يفهم على أنه التزام مصدره العقد دون غيره من المصادر الأخرى .
وقد ورد تعريف الالتزام في القانون الفرنسي عرضاً في صدد تعريف العقد . فنصت المادة 1101 من هذا القانون علي أن " العقد اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام تعمل أو بالامتناع عن عمل " . وتعريف القانون الفرنسي يقرب من تعريف القانون المدني القديم في أن كلا منهما ينص أن محل الالتزام قد يكون إعطاء شيء ، (donner  ) ، أي نقل ملكية أو حق عيني . والقانون المدني القديم يدخل الالتزام بإعطاء شيء في دائرة الالتزام تعمل .
13 – التعريف الذي ورد في المشروع التمهيدي للتقنين المدني : الجدير : وقد كان المشروع التمهيدي للتقنين المدني الجديد ، في المادة 121 ، يعرف الالتزام على الوجه الآتي " الالتزام حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل " .
وقد ورد في المذكرة الإيضاحية لهذا المشروع ، تعليقاً على هذا النص ، ما يأتي ( [4] ) " كان في الوسع تعريف الالتزام بأنه علاقة قانونية أو رابطة من رواب القانون ، ولا سيما أن هذا هو التعريف التقليدي الذي ورد في التقنين المصري الحالي ( م 90 / 144 ) . بيد أنه يخشي من سياق التعريف على هذا الوجه أن يكون في ذلك قطع برأي معين في مسألة حظها من الخلاف في الفقه الحديث غير قليل . والواقع أن تعريف الالتزام بأنه رابطة قانونية إنما هو اعتناق للمذهب الشخصي ، مع ا ن الطابع المادي للالتزام أخذ يتزايد نصيبه من البروز في التشريع الحديث . وقد آثر المشروع أن يعرف الالتزام بأنه حالة قانونية تأكيداً لهذه النزعة الحديثة . وقي تعد نزعة الشريعة لغراء في تصويرها بفكرة الالتزام . ويراعي من ناحية أخري أن ذكر الدائن قد أغفل في التعريف إغفالا تاماً ولم يذكر إلا المدين . وهذا وجه آخر من وجوه التصوير المادي لالتزام . فالالتزام ، مجرداً من الدائن ، مرتبطاً بالمدين وحده ، إنما يكون عنصراً سلبياً من عناصر الذمه المالية أكثر منه علاقة قانونية تربط ما بين شخصين . وينهض لتوجيه هذا النظر ما استقر عله العمل . فمن الميسور عملا تصور التزام ليس له دائن وقت نشوئه ، والاشتراط لمصلحة الغير حافل بالتطبيقات التي يمكن أن تساق في هذا الصدد على أن الطابع الشخصي لم يهمل إهمالا تاماً . فالالتزام ، كما هو مدكور في التعريف ، يستتبع بالضرورة وجود شخص ملزم هو المدين . ومؤدي ذلك أن لكل التزام مديناً يعتبر شخصه عنصراً جوهرياً من عناصره ، وهذا هو نصيب الطابع الشخصي من فكرة الالتزام " .
وقد رؤى حذف هذا النص في المشروع النهائي تجنباً التعريفات بقدر الإمكان فيما لا ضرورة لتعريفه وتحرزاً من تأكيد الطابع المادي الالتزام في نص تشريعي تأكيداً قد يجعله يطغي على الطابع الشخصي . فالتعريف الذي ورد في المشروع التمهيدي أليق أن يكون مكانه الفقه لا التشريع ( [5] ) .
14 – التعريف الذي تختاره : وفي رأينا أن خير تعريف للالتزام ، في المرحلة التي وصل إليها من التطور في الوقت الحاضر ، هو التعريف الذي يبرز المسألتين الآتيتين :
 ( أولا ) أن للالتزام ناحية مادية كما أن له ناحية شخصية . فهو حالة قانونية تربط شخصاً معيناً .
 ( ثانياً ) أنه ليس ضرورياً أن يوجد الدائن منذ نشوء الالتزام .
وعندنا أن التعريف الآتي يفي بهذا الفرق :
 " الالتزام حالة قانونية يرتبط بمقتضاها شخص معين بنقل حق عيني أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل " .



 ( [1] ) وينقل الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك في كتابه " نظرية الالتزام " عن مذكرات الدكتور عبد المعطي خيال بك ( فقرة 5 ) في هذا الصدد ما يأتي : " أن التكليف باحترام الحق العيني وعدم الاعتداء عليه لا يمكن بالبداهة أن يكون من العناصر المكونة له ، لأنه لا يتصور أن يطلب إلى الكافة إلا احترام حق كامل قائم . فالتكليف يتقرر إذن بعد وجود الحق العيني ، بينما الالتزام الواقع على المدين في الحق الشخصي جزء منه لا يتصور وجود الحق من غيره " . ( الدكتور حشمت أبو ستيت بك : نظرية الالتزام ، القاهرة سنة 1945 ص 10 هامش رقم 1 ) .
 ( [2] ) ويلاحظ في هذا الصدد أن التنازل عن الحق العيني يتم بارادة منفردة هي إرادة صاحب الحق . أما التنازل عن الحق الشخصي فكان في القانون المدني القديم لا يتم إلا باتفاق الدائن والمدين تغليباً لناحية ما ينطوي عليه الحق من رابطة شخصية ، ويتم الآن في القانون المدني الجديد بارادة صاحب الحق وحدها تغليباً لناحية ما ينطوي عليه الحق من قيمة مالية .
ويلاحظ كذلك أن الحق العيني يكسب بالتقادم ، أما الحق الشخصي فلا . والسبب في ذلك لا يرجعغ إلى أن الحيازة ، وهي التي يستند إليها التقادم المكسب ، ترد على الحق العيني دون الحق الشخصي ، فالحيازة ترد على كل من الحقين ( قارن نظرية العقد للمؤلف ص 7 وهامش رقم 1 ) . نرى أنه لا يوجد سبب فني يمنع من كسب الحق الشخصي بالتقادم . ولكن لما كان ذلك لا تتحقق فائدته العملية إلا نادراً ، فقد اغفلته الصياغة القانونية ، وهي لم تغفل في الوقت ذاته ما ظهرت الحاجة إليه من ذلك كما نرى في نظرية الوارث الظاهر وفي الوفاء بحسن نية لشخص كان الدين في حيازته ( م 333 من القانون المدني الجديد ) .
 ( [3] ) وساعد على ذيوع النظرية المادية في ألمانيا تحليل الحق الشخصي على اعتبار أنه حق على شيء ( Jus ad rem ) ، فاقترب بذلك من الحق العيني الذي هو حق في شيء ( Jus in re ) وقد أوعل الألمان في التحليل على هذا النحو ، حتى أصبح الحق الشخصي في النهاية خطوة نحو الحق العيني ، إذ يبقى حق الدائن شخصياً إلى يوم التنفيذ ، فإذا ما نفذ وتسلم الدائن الدين صار حقه عينيا على ما تسلمه .
وتساند مع النظرية المادية للالتزام نظريتان اخريان ، هما أيضاً ألمانيتان : نظرية الذمة المالية ونظرية المديونية والمسئولية .
فالذمة المالية ( Patrimoine ) ينظر إليها الألمان من الناحية المادية ولا يربطونها بالشخص . فهي مجموع من المال يتكون من عناصر ايجابية ( actif ) ومن عناصر سلبية ( Passif ) ، ويتميز لا باستناده إلى شخص معين ، بل بتخصيصه لغرض معين سواء استند إلى شخص أو لم يستند . ولما كان الالتزام من عناصر الذمة المالية التي هي شيء مادي ، فإنه يكسب منها هذه الصبغة .
ويميز الألمان بين المديونية ( Schuld ) والمسئولية ( Haftung ) . فالمديونية واجب قانونين معين يقوم به شخص لآخر . فهي إذن رابطة شخصية ما بين المدين والدائن ، تجعل على المدين واجب الوفاء وعلى الدائن واجب قبول هذا الوفاء . ولا تتضمن المديونية عامل الاجبار على الوفاء ، إنما الاجبار هو المعنى الذي تتضمنه المسئولية . فالمدين قد يكون مدينا ومسئولا في قوت معاً فيجمع ما بين المديونية والمسئولية ، وفي هذه الحالة يكون عليه واجب الوفاء ، ويمكن إجباره على ذلك .
وإجباره على الوفاء أما أن يكون بالتسلط على شخصه أو بالتسلط على ماله من طريق شخصه . وقد تنفصل المسئولية عن المديونية ، فلا يمكن إجبار المدين على الوفاء ( وهذا يقترب من الالتزام الطبيعي في القوانين اللاتينية ) ، ويكون هناك شخص آخر هو المسئول في شخصه ( ويقرب من الكفيل بالنفس في الشريعة الإسلامية ) أو في ماله عن طريق شخصه ( ويقرب من الكفيل الشخصي ) ، وقد تنحصر المسئولية في المال ، فيصبح المال دون الشخص في هذه الحالة هو المسئول ( ويقرب من الكفيل العيني أو الحائز للعقار المرهون ) . فالمسئولية تكون إذن على نوعين : 1 ) مسئولية شخصية تقع على شخص المسئول أو على ماله عن طريق شخصه . 2 ) ومسئولية عينية تقع على المال وحده دون نظر للشخص . ومن ثم يتبين أن المسئولية العينية ، وهي أحد العنصرين الجوهريين للالتزم ، تقع على المال مباشرة دون الشخص ، فتصطبغ بالصبغة المادية ( أنظر Rudolf Huebner ; A History of German Private Law ) ترجمة إلى الإنجليزية الأستاذ ( Philbrick ) لندن سنة 1918 ص 463 – ص 489 ) .
 ( [4] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 9 في الهامش .
 ( [5] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 9 في الهامش .

4 – أهمية نظرية الالتزام

وتأثرها بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والأدبية

14 – أهمية نظرية الالتزام : بعد ما قدمنا من تحديد لنظرية الالتزام بقي أن ندل على ما لهذه النظرية من شأن وخطر . فهي من القانون المدني ، بل ومن القانون عامة ، بمثابة العمود الفقري من الجيم . ويجعل لها تارد ( ( tarde في علم القانون مكان نظرية القيمة في علم الاقتصاد السياسي . ويجد علماء القانون فيها مجالا فسيحاً للسمو بالمنطق القانوني إلي أرفع مكان . بل قد يبالغ بعض الفقهاء فيغفل ما تشتمل عليه هذه النظرية من حقائق اجتماعية واقتصادية وأدبية ، ويجردها من كل ذلك ، ويبرزها قواعد فنية خالية إلا من المنطق المحض ، قريبة من المسائل الرياضية والعلوم الطبيعية . بل أن البعض قد غالي إلي حد أن وضع لها أسساً رياضية يضاهي بها النظريات الهندسية .
16 – تطور النظرية : على أنه إذا صح أن نظرية الالتزام هي أصلح النظرية قانونية ميداناً للتفكير المنطقي ، و أذا صح أيضاً أنها أولي النظريات قابلية للتوحيد في شرائع الأمم المختلفة لوحدة أصلها التاريخي ولسيادة المنطق فيها ، فليس بصحيح ما يزعم بعض الفقهاء من أن هذه النظرية لم تتطور ، بل بقيت ثابتة على الزمن ، تلقيناها عن الرومان كنا هي دون تعيير يذكر . والصحيح أن نظرية الالتزام تطروا تطوراً كبيراً منذ عهد الرومان إلي النوم . وقد تأثرت في تطورها بعوامل اجتماعية واقتصادية وأدبية .
17 - تأثر النظرية بالعوامل الاجتماعية : فالنظريات الاشتراكية وما في منحاها من النظريات الأخرى أثرت في نظرية الالتزام تأثيراً واضحاً . هذا عقد العمل ، وقد أخذ يزدحن بالقواعد والأحكام التي تهدف إلي حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن لهم من قبل كطرية الاجتماع وحق تكوين النهابات وحق الإضرات . وهذه نظرية العقد ذاتها ، وقد أخذت قوة الإلزام في العقد تبني فيها على التضامن الاجتماعي أكثر مما تقوم على إرادة الفرد . وهذه عقود الإذعان ، وقد أخذت الدولة تتدخل في تنظيمها حتى لا تترك جانب المستهلك دون حماية وهو الجانب الضعيف . وهذه نظرية الغبن ، وقد أخذت تتسع في القوانين الحديثة حتى أصبحت نظرية عامة تنطبق على جميع العقود على خلاف ما كانت تقضي به النظريات الفردية من وجوب ترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم تما أراد مهما أصابه من غبن في ذلك .
18 – تأثر النظرية بالعوامل الاقتصادية : كذلك كان للعوامل الاقتصادية تأثير كبير في نظرية الالتزام . فقد كان من شأن السرعة في تداول المال أن أخذ المذهب المادي لالتزام يبرز إلي جانب المذهب الشخصي كما قدمنا . وحدت ظاهرة اقتصادية أخرى هي استغلال القوات الطبيعية استغلالا اقتصادياً مما أدي إلي استعمال مختلف الآلات الميكانيكية . وكان لهذا أثره في نظرية الالتزام ، فقد اقترن تقدم الآلات وكثرة استعمالها بمخاطر جمة تستهدف لها الناس ، وكان هذا سبباً في تأسيس المسئولية على الخطأ المفروض ، بل وفي خلق نظرية تحمل التبعة . وكان من ذلك أيضاً أن اتسع نطاق عقد التأمين بأنواعه المختلفة ، فوسع من نظرية الاشتراط لمصلحة الغير حتى بدت في ثوب جديد . وظاهرة اقتصادية ثالثة كان لها أثرها ي نظرية الالتزام قي تجمع رؤوس الأموال للإنتاج على أثر تقدم الصناعة ، وكان من وراء ذلك أن جدت نظريات في تنظيم النشاط الاقتصادي ، وأدى ازدياد هذا النشاط إلى خلق أنواع جديدة من العقود لم تكن معروفة من قبل ، كالعقود الجماعية والعقود النموذجية وعقود التزام المرافق العامة . هذا إلى أن المشاكل الاقتصادية بعد الحربين العالميتين الاخيرتين قد خلقت نظريات قانونية جديدة . نرى هذا في نظرية الظروف الطارئة ، وفي نظرية الوفاء بعملة نقص سعرها وما يتصل بذلك من " شرط الذهب " ، وفي التسعير الجبري للسلع والأجر .

19 – تأثر النظرية بالعوامل الأدبية : أما تأثير العوامل الأدبية في نظرية الالتزام فهو قديم . فالنظرية التي تقضى بان الغش يفسد العقود ، ونظرية التعسف في استعمال الحق ، والمبدأ القاضي بأنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام ، كل هذه نظريات مشبعة بالروح الأدبية ، وهي تقوم على محاربة سوء النية والضرب على أيدي العابثين بالأخلاق والآداب العامة . وهناك الالتزامات الطبيعية ، وهي التزامات تمت بصلة متينة إلى قواعد الأخلاق ، يعترف بها القانون ويضع لها نوعاً من الجزاء ، فتمتزج المثل الأدبية بالقواعد القانونية حتى تصبح شيئا واحداً . هذا إلى أن المصادر غير التعاقدية للالتزام إنما تقوم على أساس متين من القواعد الأدبية . فالالتزام بالتعويض عن العمل الضار يستند إلى التزام بوجوب الامتناع عن الأضرار بالغير دون حق . كذلك مبدأ الإثراء بلا سبب يمنع الشخص من أن ينتفع على حساب غيره . والالتزامات التي ينشئها القانون ، كالتزامات الجوار والتزامات أفراد الأسرة بعضهم نحو بعض ، هي في الواقع أوامر ونواه أدبية تقضي بوجوب العطف على الجار والكف عن إيذائه والبر بذوى القربى والأرحام . فإذا قلنا أن القانون إنما يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لا نكون مبالغلين في هذا القول ، ونكون قد دللنا في الوقت ذاته على أن القانون والأخلاق شيئان متلازمان . 

ليست هناك تعليقات