ads header

أخبار الموقع

القوانين الجنائية الخاصة النظرية العامة دكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي المساعد كلية الحقوق - جامعة القاهرة 1


القوانين الجنائية الخاصة
النظرية العامة

دكتور
أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد 
كلية الحقوق - جامعة القاهرة

الطبعة الأولى
2010م



دار النهضة العربية 
32 ش عبد الخالق ثروت - القاهرة



إهداء
إلى الروح الطاهرة والنفس المطمئنة
روح أستاذي الدكتور مأمون سلامة
عرفانا وتقديرا للأب والمثل والقدوة...
تقديم

بادىء ذي بدء، أستميح القارئ عذراً في أن أتحدث هنا عن واقعة قد يراها البعض بعيدة كل البعد عن موضوع الكتاب. وسيرى القارئ العزيز مدى الارتباط بين هذه السطور وبين الموضوع الذي نحن بصدده. ففي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من ذي القعدة سنة 1430 ﻫ الموافق السابع عشر من نوفمبر سنة 2009م، انتقلت إلى رحمة الله تعالى النفس المطمئنة والروح الطاهرة، روح أستاذنا ومعلمنا وقدوتنا الأستاذ الدكتور مأمون سلامة. وقد شاءت الأقدار أن يصادف يوم وفاته اليوم الأخير من شهر ذي القعدة، وقبل ساعات قليلة من بزوغ شهر ذي الحجة. ويعني ذلك أن الروح قد انتقلت إلى بارئها في أول الليال العشر التي أقسم بها الله عز وجل في كتابه العزيز، قائلا ﴿والفجر وليال عشر﴾(). ولقد كان معروفاً عن أستاذنا الفاضل شغفه الكبير بأداء فريضة الحج. وكأن الله عز وجل أراد أن تنتقل روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى في نفس الوقت الذي اعتاد فيه الذهاب إلى البيت الحرام. ولقد شعرت شخصياً بمدى الفاجعة الكبيرة والخسارة الجسيمة التي لحقت بي جراء وفاة أستاذي وأبي ومعلمي وقدوتي، صاحب الخلق الرفيع والحياء الجميل. لقد اعتدت أن ألجأ إليه طالباً العون والمشورة والرأي كلما استعصت على مسألة، سواء كان ذلك في الحياة بوجه عام أو في الأمور العلمية ومسائل القانون الجنائي بوجه خاص. والحق أني ما طلبت رأيه في أمر، إلا وطاب لي قوله وقرت به عيني واستراح له قلبي وعقلي. ولقد كان آخر الأمور التي تناقشت فيها مع أستاذي، طالباً رأيه فيها، يتعلق بأحد النصوص التي ترد غالباً في القوانين الجنائية الخاصة، وأعني بذلك النص القاضي بأن «لا يخل تطبيق هذا القانون بأية عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر». وقد كان رأي أستاذي متفرداً وسديداً كعادته، مؤكداً أن المراد بهذا النص هو حالات التعدد المادي للجرائم، وليس كما يقول البعض بأن نصوص التجريم الواردة في القوانين الجنائية الخاصة هي نصوص احتياطية تطبق إذا لم يوجد نص يقرر عقوبة أشد في قانون آخر.

وقد أبدى أستاذي هذا الرأي أثناء لقاء جمعني به في أكاديمية شرطة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، في أحد أيام شهر فبراير سنة 2009م، حيث كان أستاذنا يلقي دروسه في مادة إجرام العنف على طلبة دبلوم العلوم الجنائية. وكنا ننظر إلى هذه الزيارات على أنها مناسبة نادرة للجلوس إلى الأستاذ، كي ننهل من علمه الوفير وخلقه الجم. وقد حضر هذا اللقاء بعض تلاميذه ومحبيه، أذكر منهم الأستاذ الدكتور على حمودة أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق جامعة حلوان وعميد كلية القانون بأكاديمية شرطة دبي، والأستاذ الدكتور رفعت رشوان أستاذ القانون الجنائي المساعد بكلية الحقوق جامعة بني سويف والمعار حالياً إلى أكاديمية الشرطة في أبو ظبي. وأثناء هذا اللقاء، راودني شعور غريب بأنه ربما يكون الأخير، وأفصحت فعلاً عن ذلك لزميلي العزيز وصديقي الفاضل الدكتور رفعت رشوان أثناء رحلة العودة من دبي إلى أبو ظبي. وبالفعل، وبعد أقل من شهرين، داهم المرض أستاذنا، وظل يعاني آلامه، وتجري له العمليات الجراحية الواحدة تلو الأخرى، متنقلاً بين باريس والقاهرة، حتى فارقت روحه الشريفة جسده الطاهر في يوم مبارك من أيام الأشهر الحرم. ولا نملك هنا إلا أن ندعو له جميعاً بأن يجزيه الله عنا خير الجزاء، لقاء ما قدمه لتلامذته ومحبيه من عون صادق ومشورة خالصة ورأي سديد. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المؤلف        

الجريمة ظاهرة قديمة قدم الإنسان ذاته. إذ ترتبط في نشأتها بظهور الإنسان على وجه الأرض. وهكذا، تحدثنا الكتب السماوية عن أن أبشع صور الإجرام قد عرفت طريقها إلى المجتمع في ابسط صوره، حيث قتل أبناء آدم – قابيل وهابيل – أحدهما الآخر(). والجريمة ظاهرة ضارة بالفرد والجماعة على السواء. ولذلك، كان من الطبيعي أن لا يقف المجتمع مكتوف الأيدي إزاءها، وأن يسعى إلى توقيع الجزاء المناسب على مرتكبها. 

وقد بدأ النظام العقابي في كافة الدول بمجموعة يسيرة من الجرائم، يمكن ردها إلى مقتضيات حماية القيم الجوهرية للمجتمع وكذلك المصالح الأساسية لمجموع الأفراد في هذا المجتمع. وكان من الممكن في هذه المرحلة من مراحل تطور القسم الخاص من قانون العقوبات الاحاطة بالجرائم التي يتضمنها هذا الفرع. فلم تكن هذه الجرائم تتجاوز صور الاعتداء على الحياة أو سلامة الجسم، كما في القتل والجرح والضرب؛ والاعتداء على مال الغير، كما في السرقة وخيانة الأمانة؛ والاعتداء على العرض، كما في الاغتصاب؛ وحفنة قليلة أخرى من الجرائم.

ومع تطور المجتمع، اتسع نطاق التجريم والعقاب، حيث اضطرد تدخل المشرع بتجريم صور سلوك تعبر عن مراحل التطور الجديدة التي يعيشها المجتمع. فالانتقال من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي استتبع بالضرورة ظهور جرائم جديدة كجريمة إفشاء سر التصنيع، وجرائم القتل الخطأ الناشئ عن حوادث السيارات، أو مخالفة أصول الخبرة الفنية التي تفرضها مهن معينة، أو استعمال الآلات بصفة عامة. كما مضى تطور قانون العقوبات في منحى آخر حضاري. إذ انشغل المشرع بحماية الأفراد ليس فحسب في حياتهم وسلامة أبدانهم وأموالهم وأعراضهم، بل كذلك في اعتبارهم وكرامتهم وحريتهم. فظهرت جرائم القذف والسب والبلاغ الكاذب واستخدام القسوة مع الأفراد وتعذيب المتهمين لحملهم على الاعتراف وتقييد حرية الأفراد بغير حق.

واستجاب المشرع الجنائي كذلك إلى التطور الناشئ عن اتساع دور الدولة في المجتمع، وتشعب دورها بحيث غدت تتدخل في كافة مجالات النشاط الإنساني. ولهذا كان من الطبيعي تجريم الأفعال الماسة بأمن الدولة من جهة الخارج كجرائم التجسس أو التخابر مع جهات أجنبية. وكان من الضروري ظهور ما أطلق عليه فيما بعد بجرائم المصلحة العامة. فاعتبار الوظيفة العامة إحدى ركائز النشاط الإداري في الدولة الحديثة استوجب تجريم أشكالا من السلوك التي تخل بنزاهة هذه الوظيفة، كما هو الحال بالنسبة لجرائم الرشوة. وظهرت كذلك جرائم الاعتداء على الأموال العامة التي لا تخص فرداً بعينه، بل تعد ملكاً للمجتمع بأسره ممثلاً في الدولة، كجرائم الاختلاس والاستيلاء على المال العام أو تسهيل هذا الاستيلاء للغير أو طلب أو أخذ غير المستحق من جانب عمال الدولة حال قيامهم بتحصيل الرسوم، أو التربح أو الإضرار بأموال الدولة. وفي نفس السياق، كان من اللازم تجريم صنوف السلوك التي تهدر الثقة في المحررات الرسمية أو العرفية التي يتداولها الأفراد فيما بينهم، لما لها من أهمية في تيسير حياتهم في المجتمع. ولهذا جرم المشرع التزوير بكافة أنواعه في الأوراق الرسمية والمحررات العرفية واستعمال هذه الأوراق أو المحررات المزورة. كما جرم المشرع تزييف العملات وأنواع شتى من الغش والتقليد.

ومع ظهور شبكة الانترنت أو الشبكة العنكبوتية كما يطلق عليها البعض، بدأت تظهر طائفة مستحدثة من الجرائم هي جرائم المعلوماتية أو جرائم الحاسب الآلي أو الجرائم الالكترونية. ومع بزوغ رياح العولمة، وما نتج عنها من تذويب للحدود بين الدول وتحرير للأسواق وإزالة القيود المحيطة بها، بدأت تبدو في الأفق جرائم جديدة أطلق عليها غسل الأموال(). وقد حدا ذلك بالبعض إلى القول بأن صدور تشريعات تجرم عمليات غسل الأموال يعد أحد أهم سمات النظام العالمي الجديد خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر(). كما أدى التقدم التكنولوجي إلى ظهور وسائل جديدة لارتكاب جرائم تقليدية. ولعل أبرز مثال على ذلك التزوير في صورة المحرر، والذي يفترض استخدام آلات التصوير الضوئي للمستندات في اقتراف عملية التزوير(). ومثال ذلك أيضا استخدام التليفون والبريد الالكتروني في ارتكاب جرائم السب والقذف والنصب والاحتيال. 

وقد استتبع هذا التضخم «الكمي» في عدد الجرائم التي يتضمنها القسم الخاص من قانون العقوبات تطورا في «الكيف»، وهو ما تمثل في استقلال طوائف معينة من الجرائم بذواتها وتفردها بأحكام خاصة بها، حتى أضحت في النهاية فروعا خاصة داخل القسم الخاص(). ويبدو مستساغا اليوم القول بأن عددا كبيرا من الجرائم يعاقب عليه بمقتضى قوانين خاصة، لا يتضمنها قانون العقوبات بمعناه الضيق. وفي تعبير آخر، يمكن القول بأن القسم الخاص من قانون العقوبات قد تحول تحت ضغط التطور إلى أقسام خاصة، يضم كل منها طائفة من الجرائم تشترك في وحدة المصلحة القانونية التي ابتغى المشرع حمايتها. وتستقل هذه الجرائم بأحكام موضوعية وإجرائية تقتضيها طبيعتها، وقد تختلف عن الأحكام العامة التي تسري على باقي أنواع الجرائم()

وهكذا، ظهرت عشرات من التشريعات الجنائية الخاصة التي تحتوي على عدد من الجرائم يفوق جرائم القسم الخاص من قانون العقوبات، وتمثل معالجة خاصة لنوع محدد من الإجرام(). وتشكل هذه القوانين الجنائية الخاصة موضوع الدراسة التي نحن بصددها.

أهمية الدراسة
«مما لا شك فيه أن جمهور الناس ممن لا يتصلون بالقانون إلا عرضا وبقدر، بل وخاصتهم ممن تدخل دراسة القانون في عملهم، أصبحوا يضيقون بحالة السيولة الزائدة التي تصدر بها القوانين في الكثير من الدول في وقتنا المعاصر، ومن تشعب المواد التي تصدر فيها وما يترتب على ذلك من قيام الصعوبة لدى أولئك وهؤلاء في ملاحقتها والتعرف على أحكامها وما هو نافذ وغير نافذ منها»(). ويمكن التعبير عن ذلك باستخدام مصطلح التضخم التشريعي (inflation législative)(). ويطلق بعض الفقه على هذه الظاهرة اصطلاح التضخم الجنائي (L'inflation pénale)()، مؤكدا أنها إحدى صور التضخم التشريعي بصفة عامة، والذي تعاني منه باقي أفرع القانون الأخرى. ولكن الظاهرة تبدو مقلقة أكثر في المجال الجنائي، لما لهذا الأخير من خصوصية، ليس أقلها أن القانون الجنائي يمس الناس في حرياتهم(). فقد أضحى من المتعذر حصر النصوص الجنائية، لفرط كثرتها وتناثرها. إذ أصبح من النادر أن يصدر تشريع جديد يعالج موضوعا ما دون أن يستعين بسلاح التجريم والعقاب، مما أفضى إلى تضخم تشريعي جنائي، بكل ما يحمله ذلك من آثار سلبية على إدارة العدالة الجنائية برمتها().

وإذا كان العلم بالنصوص المتفرقة بين قوانين وتشريعات مختلفة غدا أمرا صعبا، حتى على المتخصصين، فإن حسم مسألة التنازع بين هذه النصوص ومعرفة النص واجب التطبيق على الواقعة الإجرامية لا يقل صعوبة. وما يزيد الأمر صعوبة أن المشرع قد ينص على ذات الجريمة في أكثر من قانون جنائي خاص، وبحيث يكون ذات السلوك الإجرامي خاضعا لقانون العقوبات العام وواحد أو أكثر من القوانين الجنائية الخاصة. وهذه الصعوبة تزداد إذا علمنا أن المشرع الجنائي يلجأ عادة – في القوانين الجنائية الخاصة – إلى مبدأ الإلغاء الضمني، وليس الإلغاء الصريح، بحيث يقرر إلغاء كل حكم يخالف الأحكام الواردة به()، الأمر الذي يستلزم البحث فيما إذا كان النص التجريمي الخاص الوارد في قانون ما قد ألغى نصا تجريميا خاصا واردا في قانون آخر أم لا. ومن هنا، تبدو أهمية هذه الدراسة، التي تحاول الوقوف على ماهية القوانين الجنائية الخاصة ومبررات وجودها، وبيان حدود العلاقة بينها وبين قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية.

من ناحية ثانية، يلاحظ أن الفقه الفرنسي قد أسهب في دراسة القوانين الجنائية الخاصة، بحيث نجد مؤلفات عديدة تتناول كافة الجرائم الواردة في تشريعات خاصة. على النقيض من ذلك، نادرة هي المؤلفات العربية التي تتناول بالبحث والتحليل التشريعات الجنائية الخاصة. وربما يرجع ذلك إلى كثرة تعرض هذه التشريعات للتعديل والتبديل والتغيير. بل أن بعضها ألغي فعلا ولم يعد له وجود بعد انقضاء الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي اقتضت وجوده. ومن ثم، قد يخشى الفقيه أن ينفق الوقت والجهد في دراسة قانون جنائي خاص، وما إن ينتهي منه حتى يحدث تعديل تشريعي لنصوص هذا القانون، الأمر الذي يقلل كثيرا من قيمة الدراسة أو البحث. بل أن التعديل قد يأتي قبل الانتهاء من الدراسة، ومن ثم يتعين على الباحث أن يعاود البحث والتحليل من جديد، حتى تأتي الدراسة مواكبة لأحدث التعديلات التشريعية. ورغبة في التغلب على هذه العقبة، آثرنا أن تكون دراستنا عبارة عن نظرية عامة للقوانين الجنائية الخاصة، بحيث نجتهد في بيان الأصول العامة والمبادئ الرئيسية الحاكمة لهذه القوانين. بل أننا عمدنا إلى أن نغوص في أعماق السياسة التشريعية، وذلك بالبحث في مدى انطباق أصول السياسة التشريعية السليمة على ظاهرة القوانين الجنائية الخاصة. ولا نغالي هنا إذا قلنا بأنه على الرغم من تعدد الدراسات الفرنسية في موضوعات القوانين الجنائية الخاصة، فإن هذه الدراسات تهتم بدراسة كل طائفة من الجرائم الخاصة على حدة، دون محاولة تأصيلها والتوصل إلى نظرية عامة بشأنها جميعا.   

الدراسة المقارنة للموضوع
ينتهج هذا البحث أسلوب الدراسة المقارنة، بحيث لا نكتفي بتحليل النصوص التشريعية في القانون المصري، وإنما نتناول أيضا التشريعات العربية الأخرى التي تيسر الإطلاع عليها. ولما كانت مصادر البحث في مجال الدراسات القانونية تتمثل في التشريع والقضاء والفقه، فلن نقتصر على دراسة النصوص التشريعية في كل قانون، وإنما سنحاول قدر الامكان الرجوع إلى الأحكام القضائية والمراجع الفقهية المتعلقة بالتشريعات موضوع الدراسة.

وبناء على ما سبق، سنقوم بدراسة نصوص وأحكام التشريعات الجنائية الخاصة في القانون المصري، وذلك في إطار الرغبة في تأصيلها وبيان النظرية العامة الحاكمة لها. وبالنظر لكثرة هذه التشريعات وتعددها، بحيث يصعب الإلمام بها جميعا والوقوف على كل نص فيها، لذا نرى من المناسب الاقتصار على أهم هذه التشريعات، مثل قانون الأسلحة والذخائر رقم لسنة ، وقانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 127 لسنة 1955م()، وقانون مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها رقم 182 لسنة 1960م()، وقانون الزراعة رقم 53 لسنة 1966م، وقانون المرور رقم 66 لسنة 1973م، وقانون البيئة رقم 4 لسنة 1994م()، وقانون غسل الأموال رقم 80 لسنة 2002م، وقانون حماية حقوق الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002م()، وقانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003م()، وقانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003م()، وقانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية رقم 3 لسنة 2005م، ومشروع قانون الإرهاب.

من ناحية أخرى، سيرى القارئ عبر صفحات هذا البحث مدى التركيز على دراسة التشريعات الجنائية الخاصة في دولة الإمارات العربية المتحدة. ويرجع ذلك لسبب شخصي، يتمثل في ظروف تواجدي في إمارة أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عملت مستشارا قانونيا بوزارة الداخلية لمدة ست سنوات تقريبا، وأعمل حاليا في وظيفة «خبير قانوني» بدائرة القضاء في إمارة أبو ظبي. وقد أتاح لي هذا العمل الإطلاع على كافة التشريعات السارية في دولة الإمارات العربية المتحدة. بل أنني لا أجافي الحقيقة إذا قلت بأنه قد أتيح لي شرف المشاركة بالرأي والإعداد والصياغة في العديد من التشريعات الجنائية الخاصة الصادرة اعتبارا من سنة 2004م.

كذلك، سنحاول من خلال هذه الدراسة تحليل بعض التشريعات الجنائية الخاصة في الدول العربية الأخرى، ولاسيما القانون القطري والقانون البحريني والقانون الكويتي والقانون العماني والقانون الليبي.

غير أن الدراسة المقارنة للقوانين العربية لا تكتمل صورتها بغير دراسة بعض التشريعات الأوربية، الأمر الذي يسهم في إثراء المقارنة ويعين على فهم أحكام التشريعات العربية وإدراك أوجه الخلل فيها(). وفي هذا الصدد، نعتقد من المفيد التعرض بالدراسة للتشريعات الجنائية الخاصة في النظام القانوني الفرنسي. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب؛ أولها، أن القانون الفرنسي يعد المصدر التاريخي لغالبية التشريعات العربية. وثانيها، أن الفقه الفرنسي أسهب في الدراسات المتعلقة بالتشريعات الجنائية الخاصة، إلى الحد الذي دفع العديد من الفقهاء إلى القول بوجود فروع لقانون العقوبات. أما ثالثها، فيتمثل في أن المشرع الفرنسي قد أصدر مؤخرا قانون عقوبات جديد، وهو القانون المؤرخ في ، والذي بدأ العمل به اعتبارا من أول مارس 1994م. ومن شأن ذلك أن يعطينا فكرة عن بعض أسباب صدور التشريعات الجنائية الخاصة، وعن مآلها عند الشروع في استصدار قانون عقوبات جديد، وما إذا كان من المناسب أن يتم إدماجها في قانون العقوبات ذاته أم تبقى كتشريعات قائمة بذاتها. 

خطة الدراسة
لكي تكتمل الفائدة المرجوة من هذا البحث، ولكي يتسنى الاحاطة بكافة جوانب النظرية العامة للقوانين الجنائية الخاصة، نرى من الملائم تقسيم هذه الدراسة إلى ثلاثة أبواب، مسبوقة بفصل تمهيدي عن ماهية القوانين الجنائية الخاصة. ويتناول الباب الأول القوانين الجنائية الخاصة من منظور السياسة التشريعية، وذلك بالبحث في مدى انطباق مبدأ ضرورة التجريم على القوانين الجنائية الخاصة، ومدى ملائمة بعض القوانين الجنائية الخاصة، ومدى ملائمة بعض النصوص الجنائية الخاصة، ومدى صواب أسلوب الإحالة في التجريم والعقاب. أما الباب الثاني، فيركز على الأحكام العامة للقوانين الجنائية الخاصة، وذلك ببيان العلاقة بينها وبين قانون العقوبات من ناحية، وبيان العلاقة بينها وبين قانون الإجراءات الجنائية من ناحية أخرى. ويتعلق الباب الثالث بدراسة بعض الإشكاليات التي يثيرها تطبيق القوانين الجنائية الخاصة. ونعني بذلك ظاهرة التنازع الظاهري بين النصوص، وتحديد الطبيعة القانونية للغرامة المنصوص عليها في بعض التشريعات الجنائية الخاصة، لاسيما في المجال الضريبي والجمركي. 

وعلى هذا النحو، تتضح خطة البحث في هذا الموضوع، كما يلي:
فصل تمهيدي: ماهية القوانين الجنائية الخاصة.
الباب الأول: القوانين الجنائية الخاصة من منظور السياسة التشريعية.
الباب الثاني: الأحكام العامة للقوانين الجنائية الخاصة.
الباب الثالث: إشكاليات تطبيق القوانين الجنائية الخاصة. 





فصل تمهيدي
ماهية القوانين الجنائية الخاصة

تمهيد وتقسيم:
الكلام عن ماهية الشيء يستلزم – بطبيعة الحال – أن نقوم بالبحث في تعريفه، وبيان خصائصه، ثم التمييز بينه وبين الأمور التي تقترب منه في معناه أو في أثره أو التي ترتبط به بعلاقة ما(). ويمكن أن نضيف إلى العناصر السابقة بيان المصطلحات أو المسميات الدالة عليه، وتحديد الأسباب والمبررات الداعية إلى إصدار قوانين جنائية خاصة. إذ أن التدقيق والتمحيص في المصطلحات المستخدمة قد يساعد في تحديد المضمون بشكل دقيق وتخير التعريف المناسب().

وبذلك، فإنه لبيان ماهية القوانين الجنائية الخاصة، ينبغي علينا أن نوضح حقيقتها، وبيان التعريفات المختلفة لها. وتحديد المصطلحات المستخدمة للدلالة عليها، وبيان ذاتيتها بالتمييز بينها وبين بعض الأفكار التي قد تختلط بها، وتحديد طبيعتها القانونية، وبيان الأسباب التي دعت إلى وجودها، وتناول ظاهرة التفريع في قانون العقوبات وموقف الفقه منها. 

وعلى ذلك، نرى من الملائم تقسيم خطة الدراسة في هذا الفصل إلى خمسة مباحث، على النحو التالي:
المبحث الأول: مدلول القوانين الجنائية الخاصة.
المبحث الثاني: المصطلحات الدالة على القوانين الجنائية الخاصة.
المبحث الثالث: ظاهرة التفريع في قانون العقوبات.
المبحث الرابع: ذاتية القوانين الجنائية الخاصة. 
المبحث الخامس: الأسباب الداعية إلى إصدار قوانين جنائية خاصة.


المبحث الأول
مدلول القوانين الجنائية الخاصة

تخلو التشريعات الجنائية من تحديد المقصود بالقوانين الجنائية الخاصة. ولا يعد ذلك نقيصة في التشريع. إذ أن وضع التعريفات يدخل ضمن مهمة الفقه الذي يختص أساسا بتحديد مضمون الفكرة وبيان التكييف القانوني لها وتأصيلها بردها إلى إحدى النظريات الأساسية في المجال القانوني. أما وظيفة المشرع، فتتحدد في وضع الأحكام القانونية اللازمة لسير الحياة في المجتمع وصون المصالح التي ترى الجماعة جدارتها بالحماية.

وفي تعريف قانون العقوبات التكميلي، يقول بعض الفقه أنه «عبارة عن القوانين الجنائية التي تكمل النقص في قانون العقوبات الأصلي أو تعدل بعض أحكامه»(). وقد ورد هذا التعريف بصدد بيان التقسيمات المختلفة لقانون العقوبات، ومنها تقسيم هذا القانون إلى قانون العقوبات الأصلي وقانون العقوبات التكميلي. وفي ذات الاتجاه، وبذات الألفاظ تقريبا، يورد بعض الفقه تعريفا لقانون العقوبات التكميلي بأنه «عبارة عن النصوص العقابية التي تكمل النقص في قانون العقوبات الأصلي أو تعدل بعض قواعده»()

ويعرف بعض الفقه قانون العقوبات التكميلي بأنه «مجموعة القوانين الجنائية التي تتناول بالتجريم والعقاب أفعالا معينة بهدف إكمال ما نقص في قانون العقوبات الأساسي أو الأصلي أو تعديل بعض أحكامه»().  

ووفقا لرأي فريق آخر من الفقه، فإن قانون العقوبات التكميلي يطلق على «مجموعة التشريعات الجنائية التي تصدر فرادى لتجريم أفعال معينة»().   

ويعرف فريق آخر من الفقه قانون العقوبات التكميلي أو القوانين العقابية التكميلية بأنها «تلك النصوص العقابية الموضوعية التي تنص عليها قوانين تكون مستقلة عن قانون العقوبات الأساسي، وهي تجرم بعض صور السلوك التي تظهر الحاجة ضرورة تجريمها بعد وضع القانون الأساسي، أو أنها قد تصدر لأجل التدخل السريع لحماية مصالح تتميز بطبيعة مؤقتة أو تكون قابلة للتغيير»(). وميزة هذا التعريف أنه يشير إلى بعض أسباب أو مبررات لجوء المشرع الجنائي إلى إصدار قوانين عقابية تكميلية على حد وصف صاحب التعريف. ولكن هذا التعريف لا يتضمن الإشارة إلى كل المبررات التي تقف وراء صدور قوانين عقابية تكميلية. كذلك، يحصر التعريف قانون العقوبات التكميلي أو القوانين العقابية التكميلية في «النصوص العقابية الموضوعية التي تنص عليها قوانين تكون مستقلة عن قانون العقوبات الأساسي». والواقع أن القوانين العقابية التكميلية تتضمن – في الغالب – بعض الأحكام الجنائية الإجرائية التي تتميز عن الأحكام الإجرائية العامة الواردة في قانون الإجراءات الجنائية أو قانون الإجراءات الجزائية. ولعل صاحب التعريف أراد أن يميز – في إطار القوانين العقابية التكميلية – بين طائفتين من النصوص، هما: النصوص العقابية الموضوعية والنصوص العقابية الإجرائية. وتقابل الطائفة الأولى قانون العقوبات العام أو قانون العقوبات الأساسي، بينما تقابل الطائفة الثانية قانون الإجراءات الجنائية أو قانون الإجراءات الجزائية.

ووفقا لبعض الفقه، يطلق «قانون العقوبات التكميلي» على «مجموعة القوانين الجنائية التي تضاف إلى قانون العقوبات الأصلي أو الأساسي لكي تحمي هي الأخرى مصالح هامة في المجتمع ولكنها مصالح متطورة ومتغيرة مما اقتضى النص عليها في قوانين مستقلة عن تقنين قانون العقوبات حتى يتسنى تغييرها أو تعديلها بما يتلائم وطبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع، أو تضمينها نصوصا خاصة بها لكي تحقق حماية أوفى لتلك المصالح، مثل قوانين المخدرات والنقد والتهرب الجمركي والسلاح والمرور»(). وقد ورد هذا التعريف بصدد الحديث عن أحد تقسيمات قانون العقوبات إلى قانون العقوبات الأصلي أو الأساسي وقانون العقوبات التكميلي. 

وورد في الموسوعة الحرة (جوريسبيديا) على شبكة الانترنت تعريف قانون العقوبات التكميلي بأنه القانون «الذي يمتد إلى كافة التشريعات الجنائية التي تصدر لتكملة النقص في قانون العقوبات أو تعديل بعض أحكامه بالنظر إلى أنها تقع اعتداء على مصالح متغيرة أو طارئة، مما لا يجدر معه وضعها في مجموعة قانون العقوبات حتى لا يتغير أو لا يتبدل». ومن هذه التشريعات قانون المخدرات وقانون الأسلحة والذخائر وقانون التشرد والاشتباه وقانون الغش والتدليس وقانون تهريب النقد().

 


المبحث الثاني
المصطلحات الدالة على القوانين الجنائية الخاصة

تمهيد وتقسيم:
تتنوع المصطلحات المستخدمة في التشريع والفقه والقضاء المقارن للدلالة على الموضوع الذي نحن بصدده؛ فتارة يجري استخدام مصطلح «القوانين العقابية الخاصة» أو «القوانين الجنائية الخاصة» وغيرها من المصطلحات المشابهة. وتارة أخرى، يتم استخدام اصطلاح «القوانين العقابية المكملة» وغيرها من المصطلحات المشابهة. وسنتناول ذلك بالتفصيل في ثلاثة مطالب، ثم سنقوم بيان رأينا في مطلب رابع، وذلك على النحو التالي. 

المطلب الأول
مصطلح القوانين العقابية الخاصة

يستخدم بعض الفقه() مصطلح «التشريعات العقابية الخاصة»، مؤكدا أن مدلول قانون العقوبات لا يقتصر على مواد قانون العقوبات الصادرة بهذا الاسم، وإنما يمتد إلى كافة التشريعات العقابية الخاصة والمكملة لهذه المجموعة. وقد سبق لنا استخدام مصطلح «القوانين العقابية الخاصة»، وذلك في مؤلفنا عن «إبعاد الأجانب في ضوء أحكام القانون الجنائي»، حيث حرصنا على إبراز أن هذا الكتاب يتناول تدبير «الإبعاد في قانون العقوبات والإبعاد في القوانين العقابية الخاصة»(). كذلك، سبق لنا استخدام ذات المصطلح في مؤلفنا عن «الحماية القانونية للغة العربية»، حيث تكلمنا عن اللغة المستخدمة في تنفيذ عقوبة نشر الحكم باعتبارها إحدى العقوبات التي ترد عادة في القوانين العقابية الخاصة().

ويبدو أن المشرع الإماراتي قد انحاز لتسمية «التشريعات العقابية الخاصة» أو «القوانين العقابية الخاصة». إذ تنص المادة الثالثة من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة رقم 3 لسنة 1987م على أن «تسري أحكام الكتاب الأول من هذا القانون على الجرائم المنصوص عليها في القوانين العقابية الأخرى ما لم يرد نص فيها على خلاف ذلك». وتنص المادة 223 من ذات القانون على أن «لا تسري أحكام هذا الفرع على أحوال التزوير المنصوص عليها في قوانين عقابية خاصة». 

وتستخدم المادة الثامنة من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937م اصطلاح «القوانين واللوائح الخصوصية». وعلى سبيل الإقتداء بالمشرع المصري، استعمل بعض الفقه() مصطلح «القوانين الخاصة»، أو «القوانين الخصوصية». والواقع أن مصطلح «القوانين الخصوصية» غير دقيق. بيان ذلك أن لفظ «خصوصية» يقابل كلمة «عمومية». والمقابلة بالنسبة للقوانين الجنائية الخاصة إنما تكون مع قانون العقوبات «العام». والنعت «خاص» هو المقابل الدقيق للوصف «عام». ولذلك، نعتقد أن اصطلاح «القوانين الخاصة» أكثر دقة من مصطلح «القوانين أو اللوائح الخصوصية». 

ويستخدم المشرع المصري كذلك مصطلح «قوانين عقوبات خاصة»، وذلك في المادة 224 من قانون العقوبات، بنصها على أن «لا تسري أحكام المواد 211 و212 و213 و214 و215 على أحوال التزوير المنصوص عليها في المواد 216 و217 و218 و219 و220 و221 و222 ولا على أحوال التزوير المنصوص عليها في قوانين عقوبات خاصة». والحقيقة أن مصطلح «قوانين العقوبات الخاصة» غير دقيق. فلفظ «قوانين» هنا قد استخدم في صيغة الجمع، ومفردها «قانون». فإذا استخدمنا هذا اللفظ في صيغة المفرد، أصبح المصطلح المستخدم هو «قانون عقوبات خاص». وغني عن البيان أن اصطلاح «قانون العقوبات» يستخدم للدلالة على مجموعة الأحكام الموضوعية ذات الصلة بالتجريم والعقاب. ولا شأن لهذا المصطلح بالأحكام الإجرائية، وذلك خلافا لاصطلاح «القانون الجنائي» الذي يسوغ استخدامه في معنى واسع، بحيث يشمل كلا من الأحكام الموضوعية، أي قانون العقوبات، والأحكام الإجرائية، أي قانون الإجراءات الجنائية. ولما كانت القوانين الجنائية الخاصة تشتمل في الغالب على أحكام جنائية موضوعية وأخرى إجرائية، لذا نرى من غير الملائم استخدام مصطلح «قوانين العقوبات الخاصة». بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا المصطلح قد يثير اللبس والخلط بينه وبين القسم الخاص من قانون العقوبات العام.

وتستخدم بعض التشريعات العربية الأخرى مصطلح «القوانين الخاصة». فعلى سبيل المثال، تنص المادة 111 من قانون عقوبات البحرين على أن «تسري أحكام هذا القسم على الجرائم المنصوص عليها في القوانين الخاصة إلا إذا وجد فيها نص يخالف ذلك». وينص الفصل الرابع من مجموعة القانون الجنائي المغربي على أن «تسري أحكام هذه المجموعة أيضا على المسائل التي تنظمها قوانين أو نظم خاصة وذلك في كل ما لم يرد به نص صريح في تلك القوانين أو النظم».  

المطلب الثاني
مصطلح القوانين الجنائية الخاصة

يميل المشرع الليبي إلى استعمال مصطلح «التشريعات الجنائية الخاصة» أو «القوانين الجنائية الخاصة». بيان ذلك أن عنوان المادة الحادية عشرة من قانون العقوبات الليبي لسنة 1953م هو «القوانين الجنائية الخاصة». وتنص المادة الحادية عشرة من القانون الليبي رقم 48 لسنة 1956م بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات على أن «التشريعات الجنائية الخاصة التي صدرت قبل بدء العمل بقانون العقوبات الليبي الصادر في 28 نوفمبر سنة 1953م تعتبر باقية ونافذة في نطاق الولاية التي صدرت فيها ما لم تتعارض مع أحكام قانون العقوبات»()

وبالإطلاع على بعض المؤلفات الفقهية في شرح قانون العقوبات المصري، نجدها تستخدم اصطلاح «التشريعات الجنائية الخاصة»(). ونجد مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة» كذلك في كتابات ومقالات بعض المتخصصين في القانون الجنائي(). وفي ديسمبر سنة 1995م، أصدرت نقابة المحامين المصرية سلسلة من الكتب تحت عنوان «التشريعات الجنائية الخاصة»، وضم الجزء الأول منها نصوص ثلاثة من القوانين الجنائية الخاصة، هي: قانون الحراسة، وقانون الأحداث، وقانون الكسب غير المشروع.

وقد ورد اصطلاح «القوانين الجنائية الخاصة» في بعض الأحكام الصادرة عن محكمة النقض المصرية()

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الدول العربية تستخدم مصطلح «القانون الجزائي» أو «قانون الجزاء» بدلا من «القانون الجنائي»، وتستبدل اصطلاح «الإجراءات الجزائية» بمصطلح «الإجراءات الجنائية»، وتحل تعبير «الدعوى الجزائية» محل «الدعوى الجنائية»(). وعلى نسق التعبيرات المستعملة في هذه الدول، يستخدم البعض مصطلح «القوانين الجزائية الخاصة» بدلا من «القوانين الجنائية الخاصة». فعلى سبيل المثال، أصدر معهد التدريب والدراسات القضائية بدولة الإمارات العربية المتحدة مجلدا تحت عنوان «القوانين الجزائية الخاصة»، يضم بين دفتيه النصوص القانونية الواردة في قانون الأحداث الجانحين والمشردين، وقانون مكافحة الجرائم الإرهابية، وقانون المواد المخدرة والمؤثرات العقلية، وقانون الأسلحة النارية والذخائر والمتفجرات، وقانون تجريم غسل الأموال، وقانون قمع الغش والتدليس في المعاملات التجارية، وقانون مكافحة التستر التجاري، وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وقانون المعاملات والتجارة الالكترونية، وقانون الرقابة على الاتجار في الأحجار ذات القيمة والمعادن الثمينة ودمغها، وقانون الرقابة على استيراد وتصدير وعبور الماس الخام، وقانون تنظيم نقل وزراعة الأعضاء البشرية. 

المطلب الثالث
مصطلح القوانين العقابية المكملة

يستعمل بعض الفقه اصطلاح «القوانين المكملة لقانون العقوبات»(). ويؤكد بعض الفقه() على استخدام مصطلح «القوانين الجنائية المكملة» أو «القوانين الجنائية الملحقة» بدلا من اصطلاح «القوانين الجنائية الخاصة»، وذلك حتى لا يحصل الخلط بين القوانين المكملة لقانون العقوبات – والتي تكون جزءا منه – وبين قوانين العقوبات الخاصة، على ما سيأتي تفصيله()

وقريب من ذلك، يستخدم بعض الفقه() اصطلاح «قانون العقوبات التكميلي». وهذا المصطلح هو الترجمة الحرفية للتعبير الفرنسي (Droit pénal complémentaire) المستخدم بواسطة بعض الفقه الجنائي الفرنسي().

ويستخدم بعض الفقه الجنائي المغربي اصطلاح «القانون الجنائي التكميلي» أو «القوانين الملحقة أو المكملة للقانون الجنائي»(). وفي الفقه اللبناني، يستخدم البعض مصطلح «القوانين العقابية المكملة» واصطلاح «قانون العقوبات التكميلي»()

وبالإطلاع على الأحكام الصادرة عن محكمة النقض المصرية، نجدها تستخدم مصطلح «القوانين المكملة لقانون العقوبات» أو «القوانين العقابية المكملة» في بعض هذه الأحكام().

وفي تبرير استخدام مصطلح «قانون العقوبات التكميلي»، يقول بعض الفقه أن النظام القانوني الجنائي يتكون من قانون العقوبات الأصلي أو الأساسي وقانون العقوبات التكميلي. والمراد بقانون العقوبات الأصلي أو الأساسي مجموعة القواعد القانونية التي تحدد الجرائم وعقوباتها والآثار الجنائية الأخرى التي تترتب عليها وكذلك المبادىء العامة التي تحكم تلك الجرائم وآثارها، ويطلق على هذه القواعد التقنين المعروف باسم «قانون العقوبات». مثال ذلك قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937م، وقانون العقوبات اللبناني رقم 340 لسنة 1943م. بينما يطلق «قانون العقوبات التكميلي» على مجموعة القوانين الجنائية التي «تضاف» إلى قانون العقوبات الأصلي أو الأساسي().

والواقع أن اصطلاح «القوانين المكملة» نجده كذلك في بعض فروع القانون الأخرى. فعلى سبيل المثال، يستخدم بعض فقهاء قانون المرافعات المدنية والتجارية تعبير «القوانين المكملة»، للدلالة على بعض القوانين المنظمة للمسائل الإجرائية، والتي لم يرد النص عليها في مدونة قانون المرافعات المدنية والتجارية، مثل قانون السلطة القضائية وقانون المحاماة وقانون الإثبات وقانون الخبراء وقانون رسوم المحاكم(). كما سبق لنا استخدام مصطلح «قانون الإجراءات الجنائية التكميلي»، أو «القانون الإجرائي التكميلي» وذلك للدلالة على النصوص الإجرائية التي قد ترد في تشريعات أخرى غير مدونة الإجراءات الجنائية، مل قانون الشرطة().

وهكذا، يمكن القول بأن اصطلاح «قانون تكميلي» أو «قانون مكمل» يدل على وجود قانون أصلي أو رئيسي، وقانون أو قوانين أخرى فرعية تأتي لتكملة أحكام القانون الرئيسي وسد النقص الوارد به.       

المطلب الرابع
تفضيل مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة»

بعد التدقيق والمقارنة بين المصطلحات السابقة، نعتقد أن مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة» هو أفضلها دلالة على مضمون القانون الجنائي الخاص ذاته، والأكثر اتساقا مع بعض المفاهيم المستقرة في فقه القانون الجنائي. فمن ناحية، يلاحظ أن التشريع الجنائي الخاص لا يقتصر في العادة على الأحكام الموضوعية المتعلقة بالتجريم والعقاب، وإنما يشتمل كذلك على بعض الأحكام الإجرائية ذات الصلة بكشف هذه الجرائم وملاحقة مرتكبيها. ومن ثم، نرى من الواجب استخدام مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة»، وذلك حتى يكون مفهوما أن الأمر لا يتعلق بقواعد جنائية موضوعية فحسب، وإنما قد ينصرف الأمر كذلك إلى بعض الأحكام الإجرائية الخاصة بالجرائم الواردة في التشريع الجنائي الخاص. إذ أن اصطلاح القانون الجنائي يستخدم – أو على الأقل ينبغي أن يستخدم – في معنى واسع، بحيث يشمل كلا من قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية. ومن ثم، يكون قانون العقوبات هو القانون الجنائي الموضوعي، ويكون قانون الإجراءات الجنائية هو القانون الجنائي الإجرائي()

يضاف إلى ذلك أن مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة» له فضل الدلالة على أن الأحكام الجنائية الموضوعية الواردة في هذه القوانين إنما تتعلق – في الأساس – بالقسم «الخاص» من قانون العقوبات، ولا شأن لها – كقاعدة عامة – بالقسم «العام» من هذا القانون. إذ أن القاعدة العامة في هذا الصدد تقضي بسريان الأحكام العامة لقانون العقوبات العام على القوانين الجنائية الخاصة، ما لم يوجد بها نص مخالف. كذلك، فإن الأمر في القوانين الجنائية الخاصة قد لا يتعلق «بتكملة» نقص موجود في قانون العقوبات العام، وإنما ينصرف الوضع – في الأغلب الأعم من الأحوال – إلى وضع أحكام «خاصة» بجرائم وسلوكيات إجرامية معينة، قد يكون لها نظير ومثيل في قانون العقوبات، وإنما ارتأى المشرع تمييز هذه الأفعال الإجرامية بنصوص «خاصة» مغايرة، سواء من حيث التجريم والعقاب أو من حيث الأحكام الإجرائية. ولعل أبرز مثال على ذلك بعض صور التزوير المخففة في المحررات الرسمية.

من ناحية أخرى، نرى من الملائم أن نلفت النظر إلى إحدى قواعد حسم التنازع الظاهري للنصوص الجنائية، ونعني بذلك قاعدة أن النص الخاص مقدم على النص العام. فالمقابلة بين النص العام والنص الخاص تجعل من الملائم استخدام مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة»، والذي يوحي بالمقابلة بينه وبين «قانون العقوبات العام». بل، يمكن القول بأن القانون الجنائي الخاص يقابل كلا من قانون العقوبات العام وقانون الإجراءات الجنائية العام.

بالإضافة إلى ما سبق، فإن مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة» يبرز – أكثر من غيره – حقيقة العلاقة بينها وبين قانون العقوبات العام. فالقوانين الجنائية الخاصة – كما هو واضح من اسمها – تنطوي على نصوص خاصة، وذلك بالمقارنة بالنصوص العامة الواردة في قانون العقوبات. نعم قد ترد بعض النصوص الخاصة في قانون العقوبات العام ذاته. والمثال البارز على ذلك هو صور التزوير المخففة الواردة في قانون العقوبات المصري (المواد 216 وما بعدها)(). ومع ذلك، فإن من المتصور ورود هذه النصوص كذلك في بعض القوانين الخاصة. فعلى سبيل المثال، من المتصور أن يرد النص على تزوير جوازات السفر في القانون الخاص بالجنسية وجوازات السفر. ومن المتصور كذلك أن يرد النص على تزوير شهادات الميلاد في القانون المنظم للقيد في سجلات المواليد، وهكذا.

وعلى كل حال، وأيا كان المصطلح المستخدم، فإن التعبيرات آنفة الذكر تشير جميعها إلى أحد التقسيمات التي درج الفقه على إجراؤها داخل النظام القانوني الجنائي الذي يحكم التجريم والعقاب في المجتمع. إذ يجري الفقه على التمييز بين قانون العقوبات الأصلي من جهة وقانون العقوبات التكميلي أو القوانين العقابية الخاصة أو القوانين المكملة لقانون العقوبات من جهة أخرى. ويقصد بقانون العقوبات الأصلي مجموعة قانون العقوبات، أي القواعد التي تحكم التجريم والعقاب في المجتمع، وتصدر في شكل مجموعة تحتوي على الأفعال المنهي عنها والعقوبة المترتبة على ارتكابها. أما قانون العقوبات التكميلي، فهو عبارة عن القوانين الجنائية التي تكمل النقص في قانون العقوبات الأصلي أو تعدل بعض أحكامه().

وأخيرا، نود التنويه إلى أن اصطلاح «القوانين الجنائية الخاصة» لا يقتصر على تلك القوانين الخاصة بطائفة معينة من الجرائم، بحيث يخصص القانون بكامله للنص على هذه الجرائم، وإنما يشمل أيضا نصوص التجريم والعقاب الواردة في بعض التشريعات التي تتضمن تنظيما وافيا لموضوع معين، كما هو الشأن بالنسبة لنصوص التجريم والعقاب الواردة في قانون العمل أو في قانون الشركات.

المبحث الثالث
ظاهرة التفريع في قانون العقوبات

تمهيد وتقسيم:
ثمة اتجاه فقهي نحو التفريع في قانون العقوبات. ولكن بعض الفقه يعارض هذا الاتجاه. ويتوسط بعض الفقه، قائلا بالتفرقة بين مصطلحات ثلاثة، هي: قانون العقوبات العام، والقوانين العقابية المكملة أو قانون العقوبات التكميلي، وقوانين العقوبات الخاصة. وسنتناول هذه الاتجاهات الثلاثة تباعا، وذلك في ثلاثة مطالب، على النحو التالي:

المطلب الأول
الاتجاه المؤيد للتفريع في قانون العقوبات

يذهب بعض الفقهاء() إلى وجود قوانين متعددة بتعدد المصالح التي تحميها، فيسمى «بقانون العقوبات المالي» عندما يحمي المصالح المالية. ويسمى «بقانون العقوبات التجاري» عندما يحمي المصالح التجارية. ويسمى «بقانون العقوبات البحري» عندما يحمي المصالح البحرية... وهكذا، تتعدد قوانين العقوبات في نظر هؤلاء بتعدد المصالح التي تحميها.

وبمطالعة عناوين العديد من المؤلفات الفقهية ورسائل الدكتوراه في الموضوعات ذات الصلة بالتشريعات الجنائية الخاصة، يسوغ القول – دون تردد – أن هذا هو الاتجاه السائد في الفقه الفرنسي. إذ كثيرا ما نصادف تعبيرات مثل القانون الجنائي للعمل()، ويعكس هذا الفرع تدخل الدولة في مجال علاقات العمل بين العمال وأصحاب الأعمال، وتجريم بعض صور السلوك أو الامتناع المنطوية على إخلال بالالتزامات التي يفرضها قانون العمل. ويستخدم البعض مصطلح «القانون الجنائي الاجتماعي»()، كمرادف لاصطلاح «القانون الجنائي للعمل». ومن القوانين الجنائية الخاصة، نذكر أيضا القانون الجنائي للأعمال، وهو ذلك الفرع الذي يضم الجرائم الواقعة في ميدان النشاط التجاري والجزاءات الخاصة بها. كذلك، نذكر قانون العقوبات المالي()، وقانون العقوبات الاقتصادي()، أو القانون الجنائي للأعمال الاقتصادية والمالية()، والقانون الجنائي الضريبي، أو القانون الجنائي للقضايا الضريبية(). ويقصد بهذا الفرع من القوانين الجنائية الخاصة كافة صور السلوك المعتبرة جرائم في المجال الضريبي والأحكام التي تختص بها هذه الجرائم، وهي تخرج في كثير من الأحيان عن الأحكام العامة المشتركة التي تسري على كافة أنواع الجرائم. وثمة قانون جنائي خاص يطلق عليه اصطلاح «القانون الجنائي الجمركي»، ويضم كافة الجرائم الجمركية، وأهمها جريمة التهرب الجمركي. ويتعين أن نذكر كذلك القانون الجنائي للهجرة()، والقانون الجنائي الإداري، والقانون الجنائي للصحافة. وثمة قانون جنائي للطيران المدني()، ويطلق عليه أيضا اصطلاح قانون العقوبات الجوي. وهناك أيضا القانون الجنائي المروري، ويضم كافة الجرائم المرورية والعقوبات المقررة لها والإجراءات الجنائية الخاصة بها. والقانون الجنائي المدرسي، والقانون الجنائي العائلي. وظهر أيضا مصطلح «القانون الجنائي الزراعي»، وهو فرع يضم على حد سواء صورا من الجرائم بعيدة العهد وجرائم أخرى مستحدثة، وكلها تتعلق باستغلال الثروات الزراعية(). ومن القوانين الجنائية الخاصة التي ظهرت في وقت حديث نسبيا، نذكر «القانون الجنائي للبيئة»، والذي يضم الجرائم الضارة بالبيئة، كما هو الشأن بالنسبة لجرائم التلوث البيئي، وسواء كان هذا التلوث ضارا بالتربة أو بالماء أو بالهواء(). أما أحدث القوانين الجنائية الخاصة، فهو «القانون الجنائي للمعلوماتية»، وهو فرع حديث يهتم بدراسة صور السلوك التي جرمها المشرع الجنائي الفرنسي في الآونة الأخيرة في مجال المعلوماتية، كتقليد برامج المعلوماتية واستعمالها وكافة صور الغش غير المشروع الأخرى في هذا المجال().

كذلك، فإن الدوريات القانونية الفرنسية بدأت مؤخرا في تخصيص أبواب ثابتة للتعليق على الأحكام القضائية الصادرة في شأن الجرائم المنصوص عليها في بعض القوانين الجنائية الخاصة؛ فيعهد مثلا إلى أحد الفقهاء بالتعليق على أحكام القضاء ذات الصلة بجرائم القانون الجنائي للشركات(). ويعهد إلى فقيه آخر بالتعليق على أحكام القضاء في شأن الجرائم الواردة في قانون البيئة(). ويعهد إلى فقيه ثالث بالتعليق على أحكام القضاء في شأن جرائم القانون الاجتماعي().

ونجد المسميات آنفة الذكر كذلك لدى الفقه الجنائي في الدول الأوربية الأخرى(). ويتبنى بعض الفقه العربي ذات النهج، بحيث نجد عددا من المؤلفات الفقهية التي تتخذ عنوانا لها نفس التعبيرات المستخدمة بواسطة الفقهاء الفرنسيين أو تعبيرات مشابهة لها. فعلى سبيل المثال، يستخدم بعض الفقه العربي مصطلح «القانون الجنائي للمعاملات التجارية» ومصطلح «القانون الجنائي للشركات»، للدلالة على طائفة من النصوص الجنائية ذات الصلة بالمعاملات التجارية أو بالشركات على وجه الخصوص(). ويستخدم بعض الفقه الجنائي العربي مصطلح «القانون الجنائي للعمل»، للدلالة على النصوص الجنائية الواردة في قانون العمل().
   
أكثر من ذلك، أن بعض الفروع بدأت تعرف تقسيمات فرعية؛ فالقانون الجنائي للأعمال المالية والاقتصادية بدأت تظهر له فروعا، مثل القانون الجنائي للبنوك والائتمان(). ويقصد به الفرع الذي يهتم بكافة صور الجرائم المرتكبة في مجال النشاط المصرفي أو بمناسبته. وكذلك الحال بالنسبة للقانون الجنائي للشركات الذي يعتبر أحد فروع القانون الجنائي للأعمال التجارية()

وقد كانت بعض الفروع آنفة الذكر موضوعا لمؤتمرات دولية. فعلى سبيل المثال، كان «قانون العقوبات الاقتصادي والاجتماعي» أحد موضوعات المؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات، الذي عقد في روما في سبتمبر سنة 1953م. كذلك، كان «قانون العقوبات الجوي» أحد الموضوعات الأربعة التي تناولها بالبحث المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات، الذي انعقد في أثينا في سبتمبر سنة 1957م()

ورغم اتفاق أنصار هذا الاتجاه على ضرورة التمييز بين القسم الخاص من قانون العقوبات وبين القوانين الجنائية الخاصة، فإن معيار أو ضابط التمييز بين كل منهما غير متفق عليه: إذ ذهب رأي إلى أن ما يميز قواعد القسم الخاص من قانون العقوبات عن القوانين الجنائية الخاصة هو موضوع الحق الذي ينصب عليه الاعتداء، بحيث نكون بصدد قانون جنائي خاص كلما كانت الأفعال المجرمة تشكل اعتداء على مصالح مرتبطة من الناحية النوعية. فعلى سبيل المثال، يستهدف قانون العقوبات الاقتصادي حماية المصالح الاقتصادية، ويستهدف قانون العقوبات المالي حماية المصالح المالية. ويقول رأي آخر بمعيار شكلي قائم على الاستقلال التشريعي، أي دخول مجموعة من الجرائم في نطاق أو إطار تشريعي مستقل عن المدونة العقابية بقسميها العام والخاص()

وتجدر الإشارة أخيرا إلى أنه رغم اتفاق أنصار هذا الاتجاه على ضرورة التفريع في قانون العقوبات، إلا أنهم يختلفون في بعض المسميات المستخدمة لبعض القوانين الجنائية الخاصة. فعلى سبيل المثال، يستخدم البعض اصطلاح «القانون الجنائي الإداري»، بينما يفضل البعض الآخر استخدام مصطلح «القانون الإداري الجنائي»()، ويميل فريق ثالث إلى استخدام تعبير «قانون العقوبات الإداري». 

المطلب الثاني
الاتجاه المعارض للتفريع في قانون العقوبات

يعارض بعض الفقه() الاتجاه السابق، خشية أن يؤدي إلى تحويل القسم الخاص من قانون العقوبات إلى فروع لا حصر لها من هذا القانون، وبعثرة نصوصه. وقد ورد هذا الرأي بمناسبة التعليق على دعوة بعض الفقه إلى نشأة «القانون الجنائي للعمل»، أي وجود ذاتية أو شخصية خاصة لفرع من فروع القانون الجنائي، يطلق عليه «القانون الجنائي للعمل» أو «القانون الجنائي للعلاقات العمالية» أو «القانون الجنائي الاجتماعي».

ويبدو أن بعض الفقه يشاطرون هذا الرأي. إذ يتحدث هؤلاء عما أسموه «انفلات قانون العقوبات الخاص»()، مؤكدين أنهم آثروا القول «انفلات» وليس «تضخم قانون العقوبات الخاص»، باعتبار أن ظاهرة انفلات هذا الفرع تعني تطوره الكيفي وانسلاخ طوائف معينة من جرائمه لتكون فروعا خاصة بذاتها، بينما ظاهرة التضخم تعكس فقط التطور الكمي لهذا الفرع بزيادة عدد جرائمه. ويقول هؤلاء أنه بقدر ما تضيف ظاهرة انفلات قانون العقوبات الخاص إلى أقسام خاصة متعددة من ثراء فقهي إلى القسم الأم، إلا أنها تفقده الانسجام اللازم. يضاف إلى ذلك أنها تؤكد التساؤل المطروح منذ فترة عن مدى جدوى ظاهرة الإفراط في التجريم وإقحام الأداة الجنائية في كثير من مظاهر السلوك المخالف للقانون، والتي كان يمكن مواجهتها بأدوات غير جنائية تكفلها داخل النظام القانوني أفرع قانونية أخرى.

ويؤكد بعض الفقه() ميله إلى الرأي الذي يرى عدم التسليم بوجود قانون عقوبات خاص إلى جانب قانون العقوبات العام، لأن الاستقلال الشكلي لا يفيد شيئا طالما أن الجرائم التي ينظمها القانون الجنائي الخاص تخضع لذات المبادىء التي تخضع لها جرائم القانون الجنائي العام. كما أن تميز المصلحة أو المصالح التي يحميها القانون الجنائي الخاص لا يمكن التعويل عليه، لأن جرائم القانون الجنائي العام تحمي هي الأخرى مصالح متعددة ومتميزة ومستقلة عن بعضها. ولا ينهض الاستقلال القاعدي أيضا دليلا على وجود قانون العقوبات الخاص، لأن قانون العقوبات العام يحدد لكل جريمة نموذجها المستقل وأحكامها الخاصة. كما أن الأحكام العامة لذلك القانون تسمح بذلك. فكثيرا ما ينص فيها على المبدأ العام، ثم يردف ذلك بعبارة «إلا إذا وجد نص يخالف ذلك». بل أكثر من هذا فإن نص المادة الثامنة من قانون العقوبات المصري يقضي بأن «تراعى أحكام الكتاب الأول من هذا القانون في الجرائم المنصوص عليها في القوانين واللوائح الخصوصية إلا إذا وجد فيها نص يخالف ذلك». ونص المادة الثامنة السابق قاطع في خضوع ما يطلق عليه «قانون العقوبات الخاص» لمبادئ وأحكام قانون العقوبات العام. ويكفل هذا الاتجاه كما هو واضح تحقيق وحدة النظام القانوني الجنائي، ولا ينال من تلك الوحدة أن يطبق بشأنه القاعدة الأصولية التي تقضي بأن الخاص يقيد العام. 

وهكذا، يخلص أنصار هذا الاتجاه إلى أنه لا مبرر للتمييز بين القسم الخاص من قانون العقوبات وبين القوانين الجنائية الخاصة؛ إذ القسم الخاص ينبغي أن يتضمن كافة الأفعال المعدودة من الجرائم، سواء وردت في المدونة العقابية أم ورد النص عليها في قوانين خاصة().

ولعل مما يدعم الرأي المعارض للتفريع في قانون العقوبات أن الأمر لم يقتصر على مجرد ظهور بعض الفروع لقانون العقوبات، وإنما بدأت الفروع بدورها تعرف تقسيمات فرعية؛ فالقانون الجنائي للأعمال المالية والاقتصادية بدأت تظهر له فروعا، مثل القانون الجنائي للبنوك والائتمان(). وكذلك الحال بالنسبة للقانون الجنائي للشركات الذي يعتبر أحد فروع القانون الجنائي للأعمال التجارية(). كما ثار التساؤل عن ماهية بعض الفروع، وما إذا كانت متفرعة عن قانون العقوبات ذاته، أم أنها تتفرع بدورها عن بعض الفروع. فعلى سبيل المثال، ثار التساؤل عما إذا كان القانون الجنائي للعمل يعد فرعا مستقلا بصفة مطلقة، أم أنه يعد فرعا داخل نطاق القانون الجنائي للأعمال بوجه عام. وفي الإجابة على هذا التساؤل، يذهب بعض الفقه إلى أن القانون الجنائي لعلاقات العمل يعد في الأصل فرعا من فروع القانون الجنائي للأعمال. إلا أن هذا الفرع يتمتع بذاتية خاصة، وذلك بالنظر إلى البعد الإنساني لذلك القانون، بطريقة تتصف بالشمولية والاتساع عن نطاق القانون الجنائي للأعمال. كما أن القانون الجنائي لعلاقات العمل يضفي قواعد قانونية جديدة خاصة فيما يتعلق بالمسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية(). ولا شك أن هذه الإجابة تبعث على الغموض، وتجعلنا ندور في حلقة غير متناهية من التفريعات.  

المطلب الثاني
الاتجاه الوسطي

يتوسط بعض الفقه بين الرأيين السابقين، مؤكدا أن تعدد القوانين الجنائية بتعدد المصالح التي تحميها لا يتفق مع الدقة العلمية. ذلك أن قانون العقوبات بحسب طبيعته يعالج مصالح المجتمع العديدة المتنوعة، فلا يجوز تجزئته أو تمزيقه إلى عدة قوانين – ولو وردت في تشريعات خاصة – بقدر تعدد هذه المصالح، لأن وحدة قانون العقوبات ترتكز على القسم العام بوصفه الإطار القانوني الذي يجمع قائمة الجرائم التي ينص عليها، إما في مجموعته الأصلية أو في التشريعات الخاصة. وطالما كانت الجرائم المنصوص عليها تدخل في هذا الإطار القانوني، أي تخضع للقسم العام، كانت جزءا من قانون العقوبات، مهما تعددت واختلفت المصالح المعتدى عليها بهذه الجرائم()

وإذا كان الميل إلى التخصص يعتبر في ذاته اتجاها محمودا، فإن المبالغة فيه قد ينبني عليها نتائج غير مقبولة، هي في هذا المقام القضاء على وحدة قانون العقوبات والخروج على أحكامه العامة. ويخلط كثير من الفقهاء بين موضوع قانون العقوبات الخاص وموضوع العلاقة بين قانون العقوبات العام وفروع القانون الأخرى. إن فروع القانون تتعاون جميعا في تحقيق أهداف القانون، الاستقرار والعدالة وحماية المصالح المشتركة، وكل فرع من فروع القانون له جزاءاته الخاصة، ويتدخل قانون العقوبات بجزاءاته الشديدة لمعاونة الفروع الأخرى في احترام قواعدها كلما اقتضى الحال. ومجموعة النصوص التي يتدخل بها قانون العقوبات لمعاونة فرع آخر تخضع في تفسيرها وتطبيقها للأحكام العامة في هذا القانون، لأن الشارع لم يخصها بأحكام متميزة().

ومع ذلك، ثمة تشريعات خاصة أعلنت خروجها على أحكام القسم العام من قانون العقوبات، واستأثرت – بوجه عام – في معالجتها للجرائم والعقوبات بمبادئ عامة متميزة. وفي تعبير آخر، من المصالح ما يتميز بطابع معين يبرر وضع مجموعة خاصة به تكون نظاما مستقلا إلى حد ما عن قانون العقوبات، ويطلق عليها قانون العقوبات الخاص(). ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في قانون العقوبات العسكري. إذ يتميز هذا القانون عن قانون العقوبات بأنه ينص على جرائم تتصل بالنظام العسكري، ولا نظير لها في قانون العقوبات. كما ينص على عقوبات غير مألوفة في قانون العقوبات العام، كالطرد من الخدمة عموما أو من القوات المسلحة والتنزيل والحرمان من الأقدمية والتكدير بالنسبة للضباط والتنزيل لدرجة أو أكثر بالنسبة لضباط الصف والجنود. ومن قوانين العقوبات الخاصة أيضا، يذكر هذا الفريق من الفقه قانون العقوبات الاقتصادي. فقد اقتضى التوجيه الاقتصادي إصدار تشريعات متعددة تحد من ارتفاع الأسعار أو تمنع تهريب الأموال أو استيراد السلع بغير ترخيص... الخ. ومن الطبيعي أن تدعم هذه القوانين بجزاءات جنائية لتوفير الحماية لتنفيذ السياسة الاقتصادية. وقد اضطر المشرع في سبيل ذلك إلى الخروج على الأحكام العامة الواردة في قانون العقوبات إلى حد يسوغ معه القول بوجود قانون عقوبات خاص باسم قانون العقوبات الاقتصادي. ومن هذا القبيل كذلك، قانون العقوبات المالي أو الضريبي. ويعني هذا المصطلح مجموعة النصوص التي تحمي مصلحة الخزانة. فهذه النصوص تتضمن قواعد قانونية تختلف إلى حد ما عن الأحكام العامة في قانون العقوبات العام. ففي هذه الأحوال الاستثنائية، لا تتميز هذه التشريعات الخاصة بمجرد نوع المصلحة التي تحميها، وما إذا كانت عسكرية أو اقتصادية أو ضريبية، وإنما تتميز حقيقة بأن لها قسما عاما متميزا عن القسم العام لقانون العقوبات في كثير من المبادئ. ولهذا، يسمى هذا النوع الأخير من القوانين «بقانون العقوبات الخاص» لتمييزه عن «قانون العقوبات العام»()

ويحرص أنصار هذا الاتجاه على التنويه إلى أن استقلال قانون العقوبات الخاص لا يعني انفصاله تماما عن قانون العقوبات العام. فهذا القانون هو الأصل العام الذي ينبغي الرجوع إليه لسد النقص، أو استجلاء الغموض في القانون الخاص. ذلك أن قانون العقوبات نفسه يكون جزءا من النظام القانوني يستعين بالفروع الأخرى في المسائل التي لم ينظمها(). ولتوضيح هذه العبارة، يمكن أن نلفت النظر إلى العلاقة بين قانون الإجراءات الجنائية وقانون الإجراءات المدنية أو قانون المرافعات كما يطلق عليه في بعض التشريعات. إذ لا ينازع أحد في استقلال كل من القانونين عن الآخر. ومع ذلك، فإن الرأي مستقر فقهاً وقضاءً على أن قانون الإجراءات المدنية يعتبر القانون العام للإجراءات القضائية كافة، المدنية والجنائية على السواء، بحيث ترجع المحاكم الجنائية إلى هذا القانون في كل ما لم يرد بشأنه نص خاص في قانون الإجراءات الجنائية()

وهكذا، يميز أنصار هذا الاتجاه بين قانون العقوبات العام وقانون العقوبات الخاص. ويقوم هذا التقسيم على أساس الاعتداد بذاتية الأحكام التي تخضع لها مجموعة معينة من الجرائم. فإذا أخضع المشرع مجموعة من الجرائم لأحكام قانونية خاصة متميزة – كقاعدة عامة – عن أحكام القسم العام من قانون العقوبات، فإنه يسوغ القول بأن هذه المجموعة تخضع لقانون العقوبات الخاص().

وقريبا من هذا الاتجاه، ينادي بعض الفقه بالتفرقة بين قانون العقوبات العام وقانون العقوبات الخاص. والمعيار الذي يستند إليه هذا التقسيم هو نطاق التطبيق المتعلق بالأشخاص أو بالوقائع. فحيث يكون القانون مطبقا على جميع الأفراد وعلى جميع الوقائع التي تقع تحت سلطانه، فإنه يأخذ صفة العموم. وعلى ذلك فقانون العقوبات الأصلي هو قانون العقوبات العام. أما حيث يكون نطاق تطبيق القانون مقصورا على طائفة معينة من الأفراد بسبب توافر صفات خاصة بهم أو بسبب وجودهم في ظروف معينة، ومقصورا على وقائع محددة بحسب موضوعها أو بسبب شخص مرتكبها أو مكان وقوعها، فهذا القانون يعتبر خاصا. وبعبارة واحدة، فإن قانون العقوبات الخاص هو الذي يحكم التجريم والعقاب بالنسبة لبعض الأفعال ، سواء أكانت واردة أم غير واردة بقانون العقوبات العام، بأحكام تختلف عن الأحكام المنصوص عليها في هذا الأخير. ومثال قوانين العقوبات الخاصة قانون العقوبات المالي وقانون العقوبات الاقتصادي وقانون العقوبات العسكري().   

المبحث الرابع
ذاتية القوانين الجنائية الخاصة

تمهيد وتقسيم:

المطلب الأول
التمييز بين القوانين الجنائية الخاصة والتفويض التشريعي

تنص المادة 380 من قانون العقوبات المصري على أن «من خالف أحكام اللوائح العامة أو المحلية الصادرة من جهات الإدارة العامة أو المحلية يجازى بالعقوبات المقررة في تلك اللوائح بشرط ألا تزيد على خمسين جنيها، فإن كانت العقوبة المقررة في اللوائح زائدة عن هذه الحدود وجب حتما إنزالها إليها. فإذا كانت اللائحة لا تنص على عقوبة ما يجازى من يخالف أحكامها بدفع غرامة لا تزيد على خمسة وعشرين جنيها»().

والتفويض التشريعي قد يتعلق في بعض الحالات بالإجراءات الجنائية، خلافا للمبدأ الشائع في فقه القانون الجنائي. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 79 الفقرة الأولى من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة على أن «من حكم عليه بالسجن المؤبد أو المؤقت في جريمة ماسة بأمن الدولة الخارجي أو الداخلي في جريمة تزييف نقود أو تزويرها أو تقليدها أو تزوير طوابع أو مستندات مالية حكومية أو محررات رسمية أو في جريمة رشوة أو اختلاس أو سرقة أو قتل عمد مقترن بظرف مشدد يوضع بحكم القانون بعد انقضاء مدة عقوبته تحت مراقبة الشرطة وفقاً للقواعد التي يحددها وزير الداخلية مدة مساوية لمدة العقوبة على أن لا تزيد على خمس سنوات». وطبقا للمادة 60 الفقرة الثانية من القانون الاتحادي رقم (14) لسنة 1995م في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية، «يصدر ببيان القواعد والإجراءات المتعلقة بإعدام تلك المواد والنباتات (أي المحكوم بمصادرتها) والتصرف فيها قرار من وزير العدل بعد أخذ رأي وزير الصحة». ووفقا للمادة 62 من ذات القانون، «يتم التحفظ على ما يضبط من مواد مخدرة أو مؤثرات عقلية تكون محلا لجريمة من الجرائم المعاقب عليها بموجب هذا القانون وذلك وفقا للقواعد والإجراءات التي يصدر بها قرار من وزير العدل».

المطلب الثاني
القوانين الجنائية الخاصة والقوانين المكملة للدستور

تضمن الباب السابع من الدستور المصري لسنة 1971م – المضاف بموجب التعديل الدستوري في 22 مايو سنة 1980م – أحكاماً جديدة. وما يهمنا من هذه الأحكام المستحدثة، هو إنشاء مجلس الشورى، والذي تحددت اختصاصاته في المادتين 194 و195 من الدستور. وتشتمل هذه الاختصاصات على أخذ رأي مجلس الشورى في مشروعات القوانين المكملة للدستور (المادة 195 البند الثاني). وفي سنة 2007م، حدث تعديل دستوري آخر، يفرض موافقة المجلس على هذه القوانين.

والواقع أن عبارة القوانين المكملة للدستور لم تكن موجودة في دستور سنة 1971م عند صدوره، ولم تعرفها الدساتير المصرية السابقة، ولا مقابل لها في الدساتير المقارنة. ولذلك، ثار جدل طويل في الفقه الدستوري حول تحديد مضمون تلك العبارة، وحاول بعض الفقه وضع معيار محدد لها، بينما حاول البعض الآخر وضع بيان حصري يتضمن تحديد تلك القوانين.

وفي الخامس عشر من مايو سنة 1993م، أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكما في القضية رقم 7 لسنة 8 قضائية (دستورية)، حددت فيه معيار القوانين المكملة للدستور، بقولها إن هناك شرطين يتعين اجتماعهما معا لاعتبار مشروع قانون معين مكملا للدستور: أولهما، أن يكون الدستور ابتداء قد نص صراحة على مسألة بعينها على أن يكون تنظيمها بقانون، أو وفقا للقانون، أو في الحدود التي يبينها القانون، أو طبقا للأوضاع التي يقررها. فإن هو فعل، دل ذلك على أن هذا التنظيم بلغ في تقديره درجة من الأهمية والثقل لا يجوز معها أن يعهد به إلى أداة أدنى. ثانيهما، أن يكون هذا التنظيم متصلا بقاعدة كلية مما جرت الوثائق الدستورية على احتوائها وإدراجها تحت نصوصها. وتلك هي القواعد الدستورية بطبيعتها التي لا تخلو منها في الأعم أية وثيقة دستورية، والتي يتعين كي يكون التنظيم التشريعي مكملا لها أن يكون محددا لمضمونها مفصلا لحكمها مبينا لحدودها، بما مؤداه أن الشرط الأول وإن كان لازما كأمر مبدئي يتعين التحقق من توافره قبل الفصل في أي نزاع حول ما إذا كان مشروع القانون المعروض يعد أو لا يعد مكملا للدستور، إلا أنه ليس شرطا كافيا. بل يتعين لاعتبار المشروع كذلك أن يقوم الشرطان معا متضافرين استبعادا لكل مشروع قانون لا تربطه أية صلة بالقواعد الدستورية الأصيلة، بل يكون غريبا عنها مقحما عليها. واجتماع هذين الشرطين مؤداه أن معيار تحديد القوانين المكملة للدستور، التي يتعين أن يؤخذ فيها رأي مجلس الشورى قبل تقديمها إلى السلطة التشريعية، لا يجوز أن يكون شكليا صرفا، ولا موضوعيا بحتا، بل قوامه مزاوجة بين ملامح شكلية، وما ينبغي أن يتصل بها من العناصر الموضوعية، على النحو المتقدم بيانه()

وفي الثالث من يونيو سنة 2000م، أكدت المحكمة الدستورية العليا هذا المعيار، وبذات العبارات، وذلك بمناسبة القضية رقم 153 لسنة 21 قضائية دستورية. ولما كانت أحكام المحكمة الدستورية العليا ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة، عملا بنص المادة 49 البند الأول من قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 48 لسنة 1979م. فلا مجال إذن للخروج على المعيار المذكور بشرطيه الشكلي والموضوعي. وإنما كل ما نملكه هو محاولة الإجابة عما يثيره التطبيق العملي لهذا المعيار من تساؤلات على النحو التالي:
أولا: الشرط الشكلي:
مؤدى هذا الشرط الشكلي أن يكون الدستور ابتداء قد نص صراحة على مسألة معينة على أن يكون تنظيمها بقانون، أو وفقا لقانون، أو في الحدود التي يبينها القانون، أو طبقا للأوضاع التي يقررها. وقد أثيرت في هذا الصدد بعض التساؤلات أوضحها فيما يلي:
  1. قد يكون القانون مجرد أداة دون أن يلعب دورا في تحديد المضمون. وفي هذه الحالة لا يصح اعتبار هذا القانون مكملا للدستور. وقد ضربت المحكمة الدستورية العليا بعض الأمثلة لذلك بقولها إنه لا يعد من القوانين المكملة للدستور القانون الذي يصدر إعمالا لنص المادة 14 من الدستور محددا أحوال فصل العاملين بغير الطريق التأديبي، والقانون الصادر في شأن العفو الشامل على ما تقضي به المادة 149 من الدستور، أو تنظيم التعبئة العامة وفقا لنص المادة 181 منه. فالتنظيم التشريعي الصادر في الأحوال المتقدمة، ليس مرتبطا بأية قاعدة من القواعد الدستورية بمعنى الكلمة، بل يفتقر هذا التنظيم إلى العنصر الموضوعي الذي يدخل القانون الصادر به في عداد القوانين المكملة للدستور...
ويمكن أن نضيف إلى هذه القوانين المستخدمة كأداة فقط قانون ربط الموازنة العامة للدولة، فهو ليس من القوانين المكملة للدستور (يلاحظ أن إحالة مشروع الموازنة العامة للدولة إلى مجلس الشورى يتم بموجب الصلاحيات المقررة للسيد رئيس الجمهورية عملا بالمادة 195/5 من الدستور).
  1. قد لا ينص الدستور صراحة على أن مسألة معينة ينظمها القانون، أو وفقا للقانون، أو في الحدود التي يبينها القانون، أو طبقا للأوضاع التي يقررها، وإنما يستخدم تعبيرا آخر، مثل تكفل الدولة أو تحرص الدولة على الحفاظ على الطابع الأصيل للأسرة المصرية... ونصت المادة 10 منه على أن تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة، وترعى النشء والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم. ونصت المادة 11 منه على أن تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع... ونصت المادة 13 منه على أن العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة... ونصت المادة 16 منه على أن تكفل الدولة الخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية... فهل في مثل هذه الحالات يمكن القول بأن الدستور قد نص على تنظيم هذه المسائل بقانون أو وفقا لأحكام القانون، ويكون بالتالي قد توافر الشرط الشكلي اللازم لاعتبار القانون مكملا للدستور؟! 
بداية، يلاحظ أن هذه النصوص لا تصلح بذاتها للتطبيق المباشر، لأنها من العموم والشمول بحيث تحتاج إلى تشريع يحدد حالات وشروط تطبيقها، ومن ناحية أخرى فإن الخطاب في هذه النصوص موجه إلى الدولة بجميع مؤسساتها بما فيها السلطة التشريعية، وبالتالي تدخل التشريعات المنظمة لهذه المسائل في عداد القوانين المكملة للدستور.
ومما يعزز هذا النظر أن محضر اجتماع لجنة التنسيق المشكلة لدراسة وبحث ماهية القوانين المكملة للدستور، قد سجل التوجه العام لأعضاء اللجنة نحو التوسع في تفسير مفهوم القوانين المكملة للدستور.
والجدير بالذكر أنه تدخل في عداد النصوص الدستورية التي لا تصلح بذاتها للتطبيق المباشر، نص المادة 57 من الدستور التي تنص على أن كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم. ولذلك تدخل المشروع وأصدر القانون رقم 137 لسنة 1972م وأضاف فقرة جديدة إلى المادة 15 من قانون الإجراءات الجنائية نصت على أنه أما في الجرائم المنصوص عليها في المواد 117 و126 و127 و282 و309 مكرر و309 مكرر (أ) من قانون العقوبات التي تقع بعد تاريخ العمل بهذا القانون، فلا تنقضي الدعوى الجنائية الناشئة عنها بمضي المدة().

ثانيا: الشرط الموضوعي
بينت المحكمة الدستورية العليا هذا الشرط بقولها إن تنظيم المسألة التي أشار إليها الدستور يجب أن يكون متصلا بقاعدة كلية مما جرت الوثائق الدستورية على احتوائها وإدراجها تحت نصوصها، وتلك هي القواعد الدستورية بطبيعتها التي لا تخلو منها في الأعم أية وثيقة دستورية. وقد ثارت بشأن هذا الشرط التساؤلات الآتية:
  1. هل يتحدد مضمون هذا الشرط بالرجوع إلى الوثائق الدستورية بوجه عام، أم يقتصر البحث على الدستور المصري فقط ؟ واضح من صياغة عبارات المحكمة الدستورية العليا أنها تميل إلى أن يكون البحث في الوثائق الدستورية بوجه عام، خاصة أن الدساتير تصاغ عادة في عبارات عامة مرنة تتسع لتلبية حاجات وتطورات الجماعات. ومن خلال هذه العبارات العامة المرنة تمكنت المحكمة الدستورية العليا من تقرير الحماية لحقوق لم يرد النص عليها صراحة في الدستور المصري، مثل الحق في الزواج والحقوق المتفرعة عنه كالحق في اختيار الزوج، تأسيسا على أن الحق في الخصوصية يشملها بالضرورة باعتباره مكملا للحرية الشخصية(). وبناء على ذلك، ذهب البعض إلى أن البحث في مدى توافر الشرط الموضوعي ينبغي ألا يقتصر على الدستور المصري فقط، وإنما يمتد أيضا إلى الوثائق الدستورية بوجه عام()
  2. اشترطت المحكمة الدستورية أن يكون تنظيم المسألة القانونية متصلا بقاعدة كلية مما جرت الوثائق الدستورية على احتوائها وإدراجها تحت نصوصها. وهذه العبارة تثير التساؤل عن ماهية القاعدة الكلية وما الفرق بينها وبين القاعدة الفرعية أو التنظيمية أو التفصيلية. ولا يكفي لإزالة الغموض الذي يكتنف هذه العبارة ما أضافته المحكمة الدستورية العليا بقولها أن تلك القواعد الكلية هي القواعد الدستورية بطبيعتها التي لا تخلو منها في الأعم أية وثيقة دستورية. ويرى البعض أنه مما يساعد على ضبط وتحديد تلك العبارة أن يقتصر مدلول القوانين المكملة للدستور على القوانين التي تتضمن التنظيم الضروري للمبادىء الدستورية بوجه عام().
  3. قد يتضمن القانون عدة مواد بعضها مكمل للدستور، والبعض الآخر غير مكمل له. وقد ذهب رأي إلى الأخذ في هذه الحالة بالطابع الغالب للقانون. فإذا كان الطابع الغالب له أنه مكمل للدستور، فلا يجوز تجزئته أو تبعيضه، وإنما يجب اعتباره كله مكملا للدستور. أما إذا كان الطابع الغالب للقانون أنه غير مكمل للدستور، فعندئذ يعامل معاملة القوانين العادية. ويرى البعض الأقرب إلى الصواب أنه إذا تضمن مشروع القانون بعض النصوص المكملة للدستور، فينبغي اعتبار المشروع برمته من مشروعات القوانين المكملة للدستور، ذلك لأن الأصل في نصوص القانون – أي قانون – أنها متكاملة ومتناسقة في إطار الوحدة العضوية التي ينظمها، ويكون من الأفضل – في مجال صناعة التشريع – النظر إلى القانون كله على اعتبار أنه مكمل للدستور، خاصة أن هذا الرأي يتفق مع توجه لجنة التنسيق المشكلة لدراسة وبحث ماهية القوانين المكملة للدستور نحو التوسع في مفهوم القوانين المكملة للدستور().
  4. معظم القوانين تتضمن بعض النصوص العقابية كجزاء على مخالفة أحكامها. ويرى البعض أن هذه النصوص العقابية لا تعتبر مكملة للدستور إلا إذا كان مضمون القانون نفسه ينظم مسألة دستورية بطبيعتها. أما في غير هذه الحالة، فإن النصوص العقابية تعد أداة لقسر المخاطبين بأحكام القانون على تنفيذه، بغض النظر عن مضمون القانون نفسه. وليس صحيحا القول بأن كل نص يتضمن عقوبة معينة يعد مكملا للدستور. والدليل على ذلك أن الدستور نفسه قد أجاز أن يكون توقيع العقوبة بناء على قانون (المادة 66)، ولم يشترط أن يكون ذلك بقانون(). وقد جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن المادة 66 من الدستور خولت السلطة التنفيذية تحديد بعض نواحي التجريم والعقاب توكيدا لما جرى عليه العمل من قبل من إسناد الاختصاص إلى السلطة التنفيذية بإصدارها قرارات لائحية في هذا الشأن لا تندرج تحت اللوائح التفويضية أو التنفيذية، وإنما يقوم هذا الاختصاص مستندا إلى نص المادة 66 من الدستور().  

وتحت عنوان "الدستور كعامل لتوجيه المشرع الجنائي نحو التجريم"، يقول أستاذنا الدكتور أحمد فتحي سرور: يؤدي الدستور دورا مهما في توجيه المشرع الجنائي نحو التجريم. فالدستور إذ يتولى حماية الحقوق والحريات يتعين على المشرع ضمان هذه الحماية وتنظيمها، ومن وسائل هذا الضمان تقرير التجريم عند المساس بها. وبالإضافة إلى الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور فإنه يحمي قيما أخرى يتعين على المشرع ضمانها. وقد يكون التجريم كذلك من وسائل هذا الضمان. ومن هنا، فإن التجريم يعكس القيم الدستورية سواء تمثلت في الحقوق والحريات أو غيرها. ويلجأ إليه المشرع إذا ما رأي أن حمايتها تستوجب تجريم المساس بها.

وبالنسبة إلى النوع الأول من القيم الدستورية، وهو الحقوق والحريات، فإن ضمان حمايتها من خلال التجريم يعكس الدور الايجابي الذي تلتزم به الدولة تجاه هذه الحقوق والحريات. فهي لا تقف أمامها موقف المتفرج السلبي، وإنما على العكس تعمل بصفة ايجابية على ضمان ممارستها وكفالة الارتقاء بها. ويشارك المشرع الجنائي بوصفه سلطة من سلطات الدولة في أداء هذا الدور الايجابي، فيستوحي القيمة الدستورية للحقوق والحريات ويعبر عنها بالتجريم من خلال ما يضعه من أوامر أو نواه مشفوعة بالعقاب عند مخالفتها. وفي هذه الحالة، فإن الجريمة التي ينص عليها قانون العقوبات تعتبر ترجمة أمينة للقيمة الدستورية التي يحميها.

وبالنسبة للنوع الثاني من القيم الدستورية، فإنه يبدو في المبادئ والقواعد الدستورية التي تتعلق بنظام الحكم والمصلحة العامة، ويتولى المشرع الجنائي حمايتها من خلال تجريم الاعتداء على أمن الدولة من الداخل أو من الخارج، والاعتداء على أعمال الوظيفة العامة، وكل ما يتعلق بأعمال السلطتين التشريعية والقضائية، ويستهدف حماية الأمن والاستقرار وضمان سير المرافق العامة.

وقد يعبر الدستور صراحة عن التجريم كوسيلة للدور الايجابي للدولة في حماية الحقوق والحريات. وقد بدا ذلك بوضوح في مثالين عبر عنهما الدستور المصري. فقد نصت المادة 57 منه على أن كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم. كما نصت المادة 72 من الدستور المصري على أن يكون الامتناع أو تعطيل تنفيذ الأحكام من جانب الموظفين العموميين المختصين جريمة يعاقب عليها القانون. كما أن الدستور الأسباني قدم ثلاثة أمثلة أخرى؛ فبعد أن نص في الفقرتين الأولى والثانية من المادة 45 على الحق في التمتع ببيئة ملائمة والتزام السلطات العامة بالاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية لحماية وتحسين مستوى الحياة والعناية بالبيئة، نص في الفقرة الثالثة لهذه المادة على معاقبة من يخالف ذلك بجزاءات جنائية أو إدارية عند الاقتضاء. وتنص المادة 46 من الدستور الأسباني على أن السلطات العامة تكفل المحافظة على الثروة التاريخية والثقافية والفنية للشعب الأسباني، وأن قانون العقوبات يعاقب على المساس بهذه الثروة. وتنص المادة 55 البند الثاني من الدستور الأسباني على أنه يمكن لقانون أساسي أن يحدد كيفية إمكان إيقاف الحقوق المنصوص عليها في المادتين 17/2 و18/2 و3 وتحديد حالات ذلك بالنسبة إلى بعض الأشخاص في إطار تحقيق يجري حول أعمال العصابات المسلحة أو العناصر الإرهابية. وتنص المادة 55 على أن سوء استخدام الصلاحيات المنصوص عليها في الفقرة السابقة أو التعسف في ذلك يؤدي إلى انعقاد المسئولية الجنائية المترتبة على مخالفة الحقوق والحريات المعترف بها قانونا.

كما نص الدستور الأسباني على معاقبة كل من يتسبب في التعسف في حبس أحد الأفراد. وتنص المادة التاسعة من هذا الدستور على معاقبة كل انتهاك لحرمة المنازل والتعسف في استخدام السلطة بالنسبة إلى القائمين بتفتيش المساكن في غير الحالات أو بغير الأشكال التي حددها القانون. وتنص المادة 52 من ذات الدستور على أن التشريع يحدد الجزاءات الجنائية على من يخالف ما نصت عليه هذه المادة من أن التعبير الحر عن إرادة الشعب بوصفها تعبيرا عن سيادة الشعب تكفله جميع أجهزة الجمهورية التي تلتزم بضمانه في جميع الظروف. وتنص المادة 24 البند الأول من هذا الدستور بالنسبة إلى حماية البيئة على أن الدولة تلتزم باتخاذ الإجراءات المانعة أو الجنائية لضمان هذه الحماية. 

ونص الدستور الايرلندي في المادة 40/6 على أن نشر الأعمال أو الأقوال غير الأخلاقية أو التي تنطوي على إغراء جنسي تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.

ونص الدستور الإيطالي في المادة 13 البند الرابع على أن يعاقب على كل إكراه بدني أو أدبي ضد الأشخاص المقيدة حريتهم().

المبحث الخامس
الأسباب الداعية إلى إصدار قوانين جنائية خاصة

تتعدد الأسباب الداعية إلى إصدار قوانين جنائية خاصة. وأول هذه الأسباب أن التطبيق العملي لقانون العقوبات قد يظهر بعض جوانب النقص في التشريع الجنائي القائم، بحيث تقتضي الحاجة ضرورة تجريم أفعال أخرى لم يتضمنها قانون العقوبات. وهكذا، كثيرا ما يتدخل المشرع الجنائي حماية لمصالح المجتمع، ويجرم بعض الأفعال التي لم تكن معروفة من قبل بقوانين لاحقة ومستقلة، قد تختلف أحكامها عن أحكام قانون العقوبات الأصلي وقد لا تختلف، وذلك وفقا للغاية التي يهدف إليها المشرع في حمايته للمصلحة العامة()

غير أن التطبيق لا يظهر التشريع الجنائي من تلك الزاوية فحسب، أي عدم قيام المشرع بتجريم بعض الأفعال الجديرة بالعقاب، بل يظهر في زوايا أخرى تتمثل في قصور النصوص القائمة عن تحقيق الغاية منها أو عن قدرتها على ضمان الحماية الكافية للمصلحة المحمية. فقد يبرز التطبيق العملي للقاعدة الجنائية أن الواقعة المجرمة فعلا بنص تشريعي قد يكون لها ثقل معين إذا ما ارتكبت في ظروف خاصة أو من قبل أشخاص معينين لهم صفة خاصة. ومن ثم، قد يجد المشرع من الملائم التدخل وإصدار قانون مستقل يشدد فيه العقوبة أو يخففها، أو يضيف أحكاما جديدة قد تكون مغايرة للأحكام العامة الواردة بقانون العقوبات وقد تكون تطبيقا لها().  

وقد يرى المشرع أن يعالج بعض الجرائم في تشريعات خاصة مكملة لقانون العقوبات، وذلك بالنظر إلى أنها تقع اعتداء على مصالح متغيرة أو طارئة، مما يجدر معه عدم وضعها في مجموعة قانون العقوبات حتى لا يصيبه كثير من التعديل أو التغيير(). وفي تعبير آخر، يمكن القول بأن من حسن السياسة التشريعية أن يضمن المشرع لمجموعة قانون العقوبات قدرا معينا من الثبات، فلا يتناول أحكامها بالتعديل إلا لضرورة ملحة. ذلك أنه عندما يضع المشرع قانون العقوبات يراعي مبادىء دستورية معلومة استقرت في الأذهان فأصبحت من الأصول المفهومة بحكم الضرورة، قلما تتغير باختلاف الزمان والمكان، بل أنها لم تعد في حاجة إلى نصوص تقررها. واستقرار قانون العقوبات يقتضي أن تقتصر حمايته على المصالح الثابتة، كحق الإنسان في الحياة وسلامة الجسم والملكية... الخ. أما المصالح المتغيرة أو الطارئة، فمن حسن السياسة التشريعية أن يتكفل قانون خاص بحمايتها(). ولعل هذا يفسر لنا لجوء المشرع الجنائي في كل الدول – على حد علمنا – إلى إصدار قوانين ملحقة بقوانين العقوبات أو مكملة له، لحماية مصالح خاصة أو متغيرة أو طارئة. ومن هذا القبيل القانون المصري رقم 24 لسنة 1923م بشأن المشردين والمشتبه فيهم، المعدل بالقانون رقم 98 لسنة 1945م، والقانون رقم 394 لسنة 1954م بشأن الأسلحة والذخائر، والقانون رقم 182 لسنة 1960م في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها، والقانون رقم 10 لسنة 1961م في شأن مكافحة الدعارة().    

وقد يكون الدافع إلى إصدار قانون خاص هو أن تكون الأفعال الإجرامية الواردة في هذا القانون الخاص مما تنفرد ببعض الإجراءات الجنائية الخاصة، ومن ثم، يرى المشرع إصدار قانون خاص يضم بين دفتيه كلا من الأحكام الموضوعية والأحكام الإجرائية الخاصة بهذه الطائفة من الجرائم.

وقد يكون الهدف من إصدار القانون الخاص سياسيا أو إعلاميا. ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن – في اعتقادنا – في قانون غسل الأموال وقانون مكافحة جرائم الاتجار في البشر. بيان ذلك أن وزارة الخارجية الأمريكية قد درجت في السنوات الأخيرة على إصدار تقرير عن حالة حقوق الإنسان في العالم.

وقد يكون السبب الدافع إلى إصدار قانون خاص هو وجود تشريع جنائي نموذجي في شأن ذات الموضوع. 

وقد يقف أكثر من سبب وراء إصدار قانون جنائي خاص. ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في لجوء المشرع الكويتي إلى إصدار القانون رقم 1 لسنة 1993م بشأن حماية الأموال العامة(). ويرى بعض الفقه() أن سبب صدور هذا القانون يرجع إلى تفشي بعض السلوكيات الماسة بالأموال العامة في مطلع التسعينيات، خاصة بعد أحداث الغزو العراقي لدولة الكويت في الثاني من أغسطس سنة 1990م. فمع زوال الاحتلال العراقي، وعودة الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية، تم اكتشاف بعض حالات الاستيلاء على المال العام المرتكبة بواسطة بعض أصحاب النفوذ، مستغلين غياب وسائل الرقابة التي كان يمارسها مجلس الأمة على المؤسسات العامة، أو الأوضاع التي كانت تمر بها دولة الكويت خلال مرحلة إعادة الإعمار، ومكافحة الآثار المتبقية من الغزو العراقي. ويؤكد هذا الفريق من الفقه أن قانون حماية الأموال العامة لا يسري على كل سلوك إجرامي واقع على مال، بل لابد من توافر الشروط المفترضة والمتطلبة قانونا لتطبيقه، ومنها أن تتوافر في فاعل الجريمة صفة الموظف العام وأن يكون محل الجريمة مالا عاما. وينبني على ذلك أن قانون الأموال العامة لا يسري على حالة قيام موظف عام بالاستيلاء على مال خاص مملوك لأحد الأفراد. ومن باب أولى، لا يسري هذا القانون إذا قام أحد الأفراد ممن لا يصدق عليهم وصف الموظف العام بالاستيلاء على مال خاص مملوك لأحد الأفراد، وإنما نكون بصدد جريمة سرقة يطبق عليها نصوص قانون الجزاء الكويتي رقم 16 لسنة 1960م (المواد 217- 227). كذلك، فإن قيام غير الموظف العام بالاستيلاء على أموال عامة مملوكة للدولة لا يستدعي تطبيق قانون الأموال العامة، وإنما يخضع الفعل الإجرامي المرتكب منه لنصوص قانون الجزاء باعتبارها سرقة عادية، مع مراعاة أن المشرع الجنائي يشدد عقوبة السرقة إذا وقعت السرقة على مال عام أو على مرفق عام. وبناء على ذلك، فإن تطبيق قانون الأموال العامة الكويتي يستلزم توافر شرطين، هما: أن يكون محل الجريمة مالا عاما، وأن يكون الجاني موظفا عاما. ويمكن أن نجد في ذلك سببا لصدور قانون جنائي خاص بحماية الأموال العامة. بيان ذلك أن الفرض في قانون العقوبات الأصلي أن يخاطب كل فرد يوجد في النطاق الإقليمي للدولة، وقد يمتد نطاق تطبيقه إلى خارج الدولة في حالات خاصة نص عليها المشرع. فكل فرد، أيا كانت صفته، يعتبر مخاطبا بالأمر الذي تمليه القاعدة القانونية التجريمية ويلتزم بإطاعة هذا الأمر، ما دام موجودا في الظروف المنصوص عليها لذلك، وإلا تعرض للعقوبة المقررة لمخالفة ذلك الأمر. وتوافر صفة العموم هي الذي يضفي على القاعدة صفة القانون. حقا إن المشرع قد يستلزم في بعض الأحيان صفة معينة في الجاني، إلا أن ذلك لا ينفي عن القاعدة صفة العموم، ما دام الإلزام يسري بصفة عامة على كل من يوجد في الظروف التي تسمح بإضفاء تلك الصفة الخاصة، كما هو الشأن في استلزام صفة الموظف العام في الجاني(). ولكن المشرع قد يرى من الملائم إصدار قانون عقابي خاص، عندما يتعلق الأمر بتجريم الأفعال والسلوكيات الصادرة عن طائفة معينة من الأشخاص، بحيث لا يتحقق النموذج الإجرامي إلا إذا توافرت في الجاني صفة معينة، الأمر الذي يتوافر بالنسبة للقانون الكويتي بشأن حماية الأموال العامة الذي يجرم الأفعال المقترفة بواسطة الموظفين العموميين دون سواهم. كذلك، قد يكون السبب في إصدار قانون عقابي خاص بالأموال العامة، على نحو ما فعل المشرع الكويتي، هو الرغبة في وضع تشريع كامل متكامل يضم بين دفتيه الأحكام الموضوعية والإجرائية الخاصة بجرائم العدوان على المال العام. إذ ينص المشرع الجنائي عادة على مجموعة من الأحكام العامة التي تسري على جرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه والغدر. وبعض هذه الأحكام ذو طابع موضوعي، وبعضها ذو طابع إجرائي(). فعلى سبيل المثال، ينص المشرع المصري على الأحكام الموضوعية ذات الصلة بالجرائم آنفة الذكر في قانون العقوبات، بينما يتضمن قانون الإجراءات الجنائية بعض الأحكام التي ينحصر نطاق تطبيقها على هذه الجرائم. ومن ثم، يثور التساؤل عما إذا كان من الملائم جمع الأحكام الموضوعية والإجرائية الخاصة بجرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه والغدر في قانون واحد يضم كلا النوعين من الأحكام()، الأمر الذي فعله المشرع الكويتي عند إصداره القانون رقم 1 لسنة 1993م بشأن حماية الأموال العامة.

وقد يعالج التشريع موضوعا معينا، متضمنا الأحكام القانونية المنظمة له من جميع جوانبه، سواء كانت إدارية أو تنظيمية. وفي هذه الحالة، قد يرى المشرع من الملائم الاستعانة بسلاح التجريم والعقاب لإضفاء الفعالية على أحكامه، فينشئ جرائم ويضع عقوبات لمخالفة القواعد الجوهرية في هذا التشريع. ومن قبيل ذلك، التشريعات المتعلقة بالمرور، والجمارك، والضرائب، والتموين، والشركات، والصيد، والزراعة، والعمل والتأمينات الاجتماعية، والتجارة، ودخول وإقامة الأجانب، والأحوال المدنية، والمباني والتخطيط العمراني، والملكية الفكرية، وغيرها من التشريعات الخاصة المنظمة لمجالات شتى غير جنائية بطبيعتها().

وأيا ما كان السبب وراء صدور القانون الجنائي الخاص، فإننا نجد أنفسنا أمام قوانين قائمة بذاتها إلى جانب قانون العقوبات الأصلي. وعن هذه القوانين القائمة بذاتها، يتحدث الفقه عما يسمى «بقانون العقوبات التكميلي» الذي يشمل جميع القوانين التي تتناول بالتجريم والعقاب أفعالا لا تندرج تحت نصوص قانون العقوبات الأصلي، أو يتضمن قواعد جنائية خاصة غير موجودة بالقانون الأصلي. والفرض أن قانون العقوبات التكميلي يكمل قانون العقوبات الأصلي، ومنهما معا يتكون النظام القانوني الجنائي().      





الباب الأول
القوانين الجنائية الخاصة 
من منظور السياسة التشريعية
تمهيد وتقسيم:
من أساليب التشريع في الدول الآخذة عن القانون الفرنسي مثل مصر ومعظم الدول العربية أن تصدر قوانين تسمى تقنينات، أي أنها كبيرة الحجم، مدروسة على أعلى مستوى من التنسيق، تحوطها لوائح وقوانين صغيرة لتغطية الحالات الطارئة. وكل ذلك مع عدم الإسراف في إصدار القوانين حتى لا تربك المواطن العادي ويثقل عليه التعرف عليها فيتجاهلها لعدم فهمه إياها ويحل به ما لا تحمد عقباه. هذا أصل كبير في السياسة التشريعية. والأصل الثاني هو أنه إذا تعددت التعديلات على تشريع قائم، فلا داع لإجراء مزيد من التشريعات المعدلة، ويجب على المشرع أن يعالج موضوع هذا التشريع من جديد، معالجة كاملة بإصدار تشريع جديد يلغي السابق، ويعيد تنظيم الأمور التي كان ينظمها من جديد حتى يحول دون تعقيد الأمور().

وإصدار قانون جنائي خاص قد يكون أحد السبل التي يلجأ إليها المشرع لتفادي إجراء تعديل على قانون العقوبات ذاته. وقد يكون ذلك لمواجهة حالة طارئة تحدث بعد صدور قانون العقوبات. وكما سبق أن رأينا، فإن أسباب اللجوء إلى إصدار قوانين جنائية خاصة متعددة وكثيرة. ومع ذلك، فإن التساؤل يثور في بعض الأحيان حول ملائمة إصدار بعض القوانين الجنائية الخاصة، وما إذا كان من الأنسب النص في قانون العقوبات ذاته على الأحكام أو الجرائم الواردة في القانون الجنائي الخاص. وقد يثور التساؤل فقط حول ملائمة بعض النصوص الجنائية الخاصة، والعلة التي تقف وراء هذه النصوص الخاصة، وما إذا كان من الأفضل الاكتفاء بالنصوص العامة الواردة في قانون العقوبات. وأخيرا، يثور التساؤل حول بعض السبل والأساليب المتبعة في صياغة القوانين الجنائية الخاصة، والسبب وراء انفراد هذه القوانين ببعض أساليب الصياغة الخاصة بها، ولماذا لا يتم اللجوء إلى الأسلوب المتبع في صياغة قانون العقوبات العام. وسنتناول هذه الموضوعات الثلاثة تباعاً، وذلك في ثلاثة فصول، على النحو التالي: 
الفصل الأول
مدى ضرورة التجريم في القوانين الجنائية الخاصة

تمهيد وتقسيم:
يميز الفقه بين نوعين من الجرائم، هما: الجرائم الطبيعية والجرائم التنظيمية أو المصطنعة. والمراد بالجرائم الطبيعية هو  

وتتعلق القوانين الجنائية الخاصة في الأغلب الأعم من الأحوال بالنوع الثاني من الجرائم. فمعظم الجرائم الواردة في هذه القوانين تنتمي إلى طائفة الجرائم التنظيمية أو المصطنعة. وقد ثار التساؤل بالنسبة لهذه الطائفة من الجرائم عن مدى ضرورة اللجوء إلى الجزاء الجنائي، وعما إذا كانت الجزاءات الأخرى غير الجنائية كافية لتحقيق الحماية المنشودة للمصلحة الاجتماعية. 

وسنحاول فيما يلي الإجابة على هذا التساؤل بالحديث عن مبدأ ضرورة التجريم بوجه عام وارتباط هذا المبدأ بالقوانين الجنائية الخاصة بشكل أساسي. ثم نتكلم بعد ذلك عن التساؤلات التي أثيرت بوجه خاص حول مدى ضرورة اللجوء إلى الجزاء الجنائي في بعض القوانين الجنائية الخاصة. 

المبحث الأول
مبدأ ضرورة التجريم

يقوم النظام القانوني على التوازن بين الحقوق والحريات من جهة وبين المصلحة العامة من جهة أخرى، وهو ما يتحقق بالتناسب بين حماية كل من الاثنين. وفي ضوء ذلك، فإن المشرع الجنائي في مقام حمايته للحقوق والحريات، يراعي التوازن بين مقتضيات هذه الحماية وبين ما يتمتع به الغير من حقوق وحريات، وكذا التوازن بين هذه الحماية وبين المصلحة العامة المتمثلة في النظام العام. فالنظام العام يقتضي تقييد حرية الفرد من خلال التجريم والعقاب. ويتحقق ذلك إذا ما اقتضته الضرورة الاجتماعية، أي ضرورة حماية المجتمع كمصلحة عامة تمثل في ذاتها قيمة دستورية. فقد لوحظ أن المشرع كثيرا ما يستخدم السلاح العقابي، مما يؤدي إلى ما يسمى بالتضخم العقابي الذي لا يستند إلى ضرورة().

إن جوهر المشكلة يكمن في أن حماية الحقوق والحريات تتطلب احتراما مماثلا لسائر القيم الدستورية المرتبطة بها. فالنظام الدستوري للحقوق والحريات لا يمكن أن يتماسك إلا بعدم المبالغة في وزن أحد مكونات هذا النظام. لهذا كانت الضرورة الاجتماعية والتناسب ضابطين متكاملين لتحديد هذا التوازن في مجال التجريم. وتتحدد الضرورة في التجريم في ضوء الهدف منه، فلا يجوز المساس بالحقوق والحريات من خلال التجريم إلا إذا اقتضى ذلك تحقيق هدف معين هو حماية المصلحة العامة أو حماية الحقوق والحريات التي تتعرض للضرر أو للخطر، وتكون في نظر المشرع جديرة بالحماية الجنائية. فارتباط التجريم بالهدف من نصوص التجريم هو أساس الضرورة ومحورها. ومن ثم، فإن الضرورة تنطوي على الالتزام نحو تحقيق الهدف. وبذلك يتضح أن الضرورة التي تلجئ المشرع إلى تجريم سلوك معين تفترض أن التجريم ودرجته يتناسبان مع الهدف من هذا التجريم().

وقد عبرت المحكمة الدستورية العليا عن هذا المبدأ، فقالت بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، وأن القانون الجنائية يتغيا أن يحدد – من منظور اجتماعي – ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوك الأفراد، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، فإن كان متجاوزا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور(). وقالت بأنه لا يجوز أن تنفصل العدالة الجنائية عن مقوماتها التي تكفل لكل متهم حدا أدنى من الحقوق التي لا يجوز النزول عنها أو التفريط فيها، ولا أن تخل بضرورة أن يظل التجريم مرتبطا بالأغراض النهائية للقوانين العقابية(). وأكدت كذلك ما مؤداه أن الفصل في دستورية النص الجنائي التي يتوخاها الجزاء الجنائي باعتباره عقابا بالضرورة في إطار اجتماعي، وأن التجريم المقرر بالنص الجنائي مرده إلى الضرورة الاجتماعية، وأن هذه الضرورة التي تقرر الجزاء المنصوص عليه في النص الجنائي، تبلور تلك الضوابط التي لا يتصور أن يتم السلوك بعيدا عنها (مثال في مجال بيع الوحدات السكنية طبقا للمادة 23 البند الثاني من القانون رقم 136 لسنة 1981م)، وإلا كان هذا السلوك انتهازا وضربا من التحايل()

ويحقق ضابط الضرورة في التجريم والعقاب الدور الاجتماعي لقانون العقوبات. فنصوص التجريم تعبر عن القيم الاجتماعية التي يؤمن بها المجتمع لحماية وجوده وأمنه وسائر مصالحه. ويدلل التطور الاجتماعي لقانون العقوبات على مدى تأثير القيم البدائية ومعتقداتها وطريقة الإنسان البدائي في الحياة في صورة التجريم والعقاب في المجتمعات الأولية، وأن التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي انعكس على القيم التي يؤمن بها المجتمع والتي تؤثر في تحديد مصالحه التي يحميها بالتجريم والعقاب، مستهدفا من وراء ذلك تعميق هذه القيم في نفوس الناس.

والضرورة الاجتماعية ليست ثابتة جامدة، بل إنها متغيرة بتغير الظروف وتطور المصالح والقيم. وقد أدى التطور السياسي والاجتماعي والتكنولوجي والاقتصادي إلى ظهور جرائم مستحدثة، منها الجرائم ضد الإنسانية، والاتجار في المخدرات، وغسل الأموال، والإرهاب، والاتجار في البشر لاسيما النساء والأطفال، والاتجار غير المشروع في السلاح. وقد اتخذت بعض هذه الأفعال شكل الجريمة المنظمة التي تتجاوز حدود الدولة في الكثير من الأحيان، والتي تعمل عادة بطريق العنف في أنشطة تهدف من ورائها إلى الحصول على المال والسلطة، مما يعرض أمن المجتمع ومصالحه للخطر، ويتطلب مواجهة شاملة من خلال التجريم والعقاب في إطار التعاون الدولي. وقد تتطلب هذه المواجهة تجريم مجرد الانضمام للجماعة المنظمة، ولو لم ينتج أثراً. 

وليس ثمة ما يحول بين المشرع وبين أن يقيم مسئولية جنائية تقوم على الإخلال بالتزام تعاقدي، إذا كان الإخلال بهذا الالتزام قد أضر بمصلحة اجتماعية لها وزنها. وفي هذا الصدد، أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن الدستور لا يتضمن قاعدة كلية أو فرعية تحول دون تدخل المشرع لتأثيم الإخلال بالتزام لم ينشأ مباشرة عن نص القانون، وإنما كان العقد مصدره المباشر().

ويقع على القضاء الدستوري عبء مراقبة مدى ضرورة التجريم في التحيات التي تتحملها القيم التي يقوم عليها النظام الدستوري. فإذا أخل المشرع بضابط الضرورة، تعرض للقضاء بعدم دستورية النص الذي أخل بضوابط الضرورة والتناسب المطلوب. فالسلطة التقديرية للمشرع في تحديد الضرورة والتناسب في التجريم والعقاب ليست مطلقة، وإنما تحدها الغايات التي استهدف الدستور تحقيقها، لأن السلطة التشريعية لا تمارس اختصاصها إلا في حدود الدستور. إلا أن الإخلال يجب أن يكون واضحا ظاهرا جليا يكشف بقوة هذا الوضوح عن انتفاء الضرورة في التجريم والعقاب، وينطق به دون أن يحتاج الأمر إلى مراجعة في السلطة التقديرية للمشرع، والتي تقوم على اعتبارات الملاءمة في اختيار أفضل الوسائل لتحقيق المقاصد التي توخاها المشرع الدستوري. وكما تقول المحكمة الدستورية العليا، فإن الجزاء الجنائي لا يكون مخالفا للدستور إلا إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة بين مداه وطبيعة الجريمة التي تعلق بها، ودون ذلك يعني إحلال المحكمة لإرادتها محل تقدير متوازن من السلطة التشريعية للعقوبة التي فرضتها(). وقالت بما مؤداه أن سلطة المشرع في التجريم مقيدة بعدم التضحية بحقوق الإنسان وحرياته في غير ضرورة تلميها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها(). وأكدت على أنه لا يجوز للمشرع أن يجرم غير الأفعال التي تربطها علاقة منطقية بتلك الأضرار الاجتماعية التي يقوم الدليل جليا على تشخيصها وتوكيدها(). وقضت بأن اتخاذ الجزاء الجنائي أداة لحمل الناس على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن مقارفتها إذا كان مبررا من وجهة اجتماعية ولم يجاوز حدود الضرورة التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها(). وقالت المحكمة بأنه لا يجوز أن يؤثم المشرع أفعالا في غير ضرورة اجتماعية ولا أن يقرر عقوباتها بما يجاوز قدر هذه الضرورة(). وقد التزمت المحكمة الدستورية العليا بضابط الضرورة في كل من التجريم والعقاب، فقضت بأن شرعية الجزاء – جنائيا أو مدنيا أو تأديبيا – مناطها أن يكون متناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع، أو حظرها أو قيد مباشرتها، وأن الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل بها إلا بقدر لزومها، بما مؤداه أن الجزاء لا يكون مبررا إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور(). وأكدت المحكمة أنه كلما كانت فكرة الجزاء – جنائيا كان أو تأديبيا أو مدنيا – تعني مجاوزة الحدود التي يجوز التسامح فيها، وكلما كان الجزاء مقررا لضرورة، ومتناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع أو منعها، متصاعدا مع خطورتها كان موافقا للدستور().

وتطبيقا لذلك، قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص الفقرة الرابعة من المادة الخامسة من قانون نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، وكذا المادة 5 مكررا من هذا القانون، على أساس أن المادة 5 مكررا عاقبت غير أعضاء نقابة المهن التمثيلية والسينمائية الذين يقحمون أنفسهم على نشاطها دون تصريح بعقوبة الحبس والغرامة أو احداهما دون قيد يتعلق بالحد الأقصى لأيهما، فإنها تكون عبئا باهظا على أعمال الإبداع لتجاوز قسوتها ما يفترض أصلا من تشجيعها وإنمائها والحض عليها بكل الوسائل، عملا بنص المادة 49 من الدستور، مما يعتبر تجاوزا لقدر الضرورة الاجتماعية التي لا يجوز أن يكون بنيان التجريم منفصلا عن متطلباتها(). وقضت المحكمة الدستورية العليا بأن ما تضمنته الفقرتان الأولى والثانية من المادة 130 من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975م من فرض غرامة تأخير بنسبة 50% من الاشتراكات المتأخرة ينطوي على معنى العقوبة في ذلك الجزاء، وإن لم يكن عقابا بحتا، وكان يجب أن يفرق المشرع في هذا الجزاء بين من يتعمدون اقتناص هذه المبالغ لحسابهم، ومن يقصرون في توريدها، وأن يكون الجزاء على هذا التقصير متناسبا مع المدة التي امتد إليها()

وقد عني الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789م بالنص – في المادتين الخامسة والسادسة منه – على أن تكون الجريمة والعقوبة ضرورية. وتطبيقا لذلك، قضى المجلس الدستوري بعدم دستورية الغرامة الضريبية بسبب إخفاء دخل الممول عندما تنطوي على عدم تناسب ظاهر، وذلك إذا كان مبلغ الغرامة معادلا للدخل المخفي، وذلك باعتبار أن هذا الجزاء في كثير من الأحوال يكشف عن عدم تناسب ظاهر مع الفعل الذي أتاه المتهم(). وقضى المجلس الدستوري الفرنسي بعدم دستورية نص المادة 421/1 من قانون العقوبات التي اعتبرت من أعمال الإرهاب مجرد مساعدة أجنبي على دخول البلاد أو التنقل فيها أو الإقامة بها على وجه غير مشروع؛ وذلك على أساس أن المشرع جرم هذا السلوك بذاته بناء على هذا الوصف، رغم أنه قد لا تكون له علاقة مباشرة مع العمل الإرهابي الذي قارفه هذا الأجنبي، دون إخلال بجواز اعتبار هذا الفعل اشتراكا في أعمال الإرهاب، أو إخفاء للمتهم بالإرهاب أو اشتراكا في جريمة إرهابية إذا توافرت الشروط التي يتطلبها القانون لقيام هذه الجريمة. وقد أسس المجلس الدستوري قضاءه على عدم توافر شرط الضرورة في التجريم والعقاب في هذه الحالة. وانتهى المجلس إلى أن المشرع قد مارس تقديره دون تناسب ظاهر(). وذهب المجلس الدستوري في حالة أخرى إلى أنه لا يجوز للمشرع أن يضع عقوبات غير ضرورية(). وعلق الفقه الفرنسي على ذلك بأنه قبل التحقق من ضرورة العقوبة ينبغي التحقق من ضرورة الجريمة. وأنه في المثال السابق، تتوافر الضرورة عندما يكون فعل مساعدة الأجنبي على دخول البلاد أو التنقل أو الإقامة بها على وجه غير مشروع قد تم عمدا لمساعدة مشروع فردي أو جماعي يهدف إلى إحداث ضرر جسيم بالنظام العام بواسطة الترويع أو التخويف().  

وقد قضت المحكمة الدستورية الأسبانية بأنه وإن كان المشرع ينفرد بتحديد المصالح القانونية الواجب حمايتها وبتحديد السلوك المعاقب عليه، وكذلك بإقامة التناسب بين السلوك المعاقب عليه والجزاء الجنائي، إلا أن القاضي الدستوري يقتصر على بحث مدى ملائمة الجزاء الجنائي إذا كان هذا الجزاء في ظاهره غير مفيد. وتطبيقا لذلك، فإن إساءة استخدام حرية التعبير لأغراض انتخابية وإن كانت تعتبر غير مشروعة، إلا أن الجزاء الجنائي المقرر لها يجب أن يكون في أضيق الحدود().

وقضت المحكمة الدستورية المجرية بأن الضرورة نحو جعل كل السلوك جريمة معاقبا عليها يجب أن تخضع لبحث دقيق ومتعمق، فلا يجوز لقانون العقوبات أن يقيد حقوق الإنسان وحرياته إلا إذا تطلبت ذلك ضرورة مطلقة وبالتناسب مع الجريمة()

واتساقا مع مبدأ الضرورة في التجريم والعقاب، ظهر اتجاه علمي إلى عدم وجوب الاعتماد على قانون العقوبات وحده في حل مشكلة الجريمة، واعتبار كافة قطاعات المجتمع مسئولة عن مكافحتها، ومنها القطاع الجنائي. وفي ضوء هذا الاتجاه، لم تعد مشكلة مواجهة الجريمة مجرد مشكلة قانونية بحتة، ولم يعد من السائغ معالجتها بنظرة مجردة تقوم على استخدام وسائل قانون العقوبات لمواجهتها(). وفي ضوء هذه النظرة، ظهرت سياسة «اللا تجريم»()، للحد من الإسراف في التجريم، وخاصة مع الجرائم التنظيمية أو المصطنعة التي استحدثتها بعض التشريعات. وقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في المؤتمر السادس لوزراء العدل في أوروبا سنة 1970م، وفي الندوة العلمية الثالثة التي أقامتها الجمعيات الدولية المشتغلة بالعلوم الجنائية()، والتي انعقدت في «بيلاجيو» بإيطاليا في مايو سنة 1973م. كما لقي الموضوع الاهتمام ذاته في المؤتمر الخامس للأمم المتحدة، المنعقد في جنيف سنة 1975م، لمكافحة الجريمة ومعاملة المذنبين. ومقتضى هذا الاتجاه أن اللجوء إلى التجريم والعقاب من أجل مواجهة الانحراف الاجتماعي لا يكون ضروريا في بعض الأحوال. وجنبا إلى جنب مع الدعوة إلى اللا تجريم، ظهر اتجاه في السياسة الجنائية إلى الحد من العقوبات السالبة للحرية، تحت مسمى «الحد من العقاب»(). فقد انعقد المؤتمر الدولي لعلم الإجرام سنة 1950م، لدراسة مشكلة العقوبة السالبة للحرية، وضرورة البحث عن عقوبات بديلة لها. ومن هذه الزاوية، أعيد تقييم النظام العقابي بأسره، بعد أن لوحظ أن «جهود المجتمع لمعاملة المجرمين كانت في أسوأ تقدير غير إنسانية، وفي أحسن الأحوال غير فعالة، وأنها في الغالب عقيمة، وفي جميع الأحوال مشوشة».

ومعيار الاتجاه نحو الحد من التجريم والعقاب هو انتفاء الضرورة والتناسب؛ فلا يجوز الالتجاء إلى التدخل الجنائي، إلا إذا كان هو الوسيلة اللازمة لحماية الحقوق والحريات أو لحماية المصلحة الاجتماعية.

ولا يحول الحد من العقاب دون اعتبار الأفعال غير اجتماعية. على أن الحد من العقاب لا يعني بالضرورة إلغاء العقاب تماما، وإنما قد يعني فحسب إلغاء بعض العقوبات أو منع تعدد العقوبات. ويلاحظ أن اتجاها معاصرا ينادي بتخويل جهات الإدارة سلطة فرض الغرامات كبديل للعقاب، وهو اتجاه لا يتفق مع الدستور المصري الذي ينص على أنه لا عقوبة بغير حكم قضائي().

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدراسات الحديثة في علم الإجرام تؤكد ضعف تأثير رد الفعل العقابي على الإجرام، وأن هذا الإجرام ليس إلا نتيجة مجموعة من أعمال رد الفعل الاجتماعي. وصاحب ذلك الدعوة إلى رفض السياسات القائمة على النظام العقابي في مواجهة الجريمة، وضرورة عدم التركيز على الفرد الذي ارتكب الفعل الإجرامي، لأن عوامل الجريمة توجد خارج هذا الفرد. وهو ما يؤدي في نظر هذا الاتجاه إلى عجز النظام العقابي مهما بني على عقوبات نموذجية أو رادعة، أو معاملة إصلاحية للجاني، لأن هذا الوضع لا يعالج سوى جزء صغير من مجموع مشكلة الإجرام، وهو ما يؤدي إلى فشل الاعتماد على السجن كحل مثالي لكثير من المشكلات الاجتماعية التي تقع تحت وصف الجرائم. وبالتالي، فإن الضرورة هي في معالجة عوامل الجريمة لا في معاقبة مرتكبيها. ومؤدى هذا الاتجاه أن معالجة ظاهرة الجريمة تتم خارج النظام القانوني العقابي، وهو ما لا يمكن التسليم به، حماية للنظام القانوني وضمانا للحقوق والحريات. وكل ما يمكن السماح به هو وضع سياسات منع الجريمة في إطار الوظيفة الاجتماعية التي تنهض بها الدولة جنبا إلى جنب مع النظام العقابي، مع التشديد في مفاهيم الضرورة الاجتماعية لتجنب التضخم في التجريم والعقاب().         

المبحث الثاني
تساؤلات حول ضرورة بعض القوانين الجنائية الخاصة

تمهيد وتقسيم:

المطلب الأول
مدى ضرورة الحماية الجنائية لعلاقات العمل

ثار التساؤل عما إذا كان إضفاء حماية جنائية في علاقات العمل تعد هي الوسيلة المثلى لضمان الحقوق العمالية أم لا. وفي الإجابة على هذا التساؤل، اختلفت الآراء الفقهية إلى ثلاثة اتجاهات: فقد ذهب البعض إلى أن الجزاء الجنائي يعد ضرورة حيث أنه يتم فرضه بغرض تجنب حدة ومقاومة المستخدمين من جهة، وتجنب انهيار قواعد النظام العام التي نص عليها المشرع في نطاق تنظيم علاقات العمل من ناحية أخرى()

ولكن رأيا آخر يذهب إلى عدم صواب إضفاء جزاء جنائي في نطاق علاقات العمل حيث أن تطبيق هذا الجزاء يؤدي إلى انهيار التقدم في مجال العمل، ويقود إلى انهيار العلاقات المهنية، ويؤدي أخيرا إلى إظهار أرباب الأعمال باعتبارهم من قبيل المجرمين()

وتوسط بعض الفقه بين الرأيين السابقين، حيث يقرر هؤلاء أنه بالرغم من أن الجزاء الجنائي يعد أمرا منتقدا، إلا أنه ضرورة لتلافي الانتهاكات التي ترد على القواعد المتعلقة بالنظام العام، وإن كان من المؤسف أن يكون اللجوء إلى الترسانة العقابية هو الأسلوب الوحيد والمؤثر الذي يتم استخدامه لصالح المستخدمين()

المطلب الثاني
مدى ضرورة الحماية الجنائية للشيك

لم يقف الأمر في بعض الحالات عند حدود المناقشات الفقهية، وإنما تعداها فعلا إلى نزع الصفة الإجرامية عن بعض الأفعال والسلوكيات. فعلى سبيل المثال، قام المشرع الفرنسي مؤخرا باستبعاد الشيك بدون رصيد من دائرة التجريم والعقاب، مقررا الاكتفاء ببعض الجزاءات الإدارية.  

الفصل الثاني
مدى ملائمة بعض القوانين الجنائية الخاصة

تمهيد وتقسيم:
كما سبق أن رأينا، إلى جانب قانون العقوبات العام، توجد في أغلب الدول تشريعات جنائية خاصة. والتشريع الجنائي الخاص قد يتناول نوعاً محدداً من الجرائم، أو يتناول الجرائم التي تقع من طائفة محددة من الأشخاص. وتندرج معظم التشريعات الجنائية الخاصة تحت الطائفة الأولى. ومن أبرز الأمثلة على هذه الطائفة من التشريعات، نذكر ما درجت عليه بعض الدول من تخصيص قانون للمخالفات أو تخصيص قانون لغسل الأموال أو للاتجار في البشر أو للجرائم الالكترونية. أما الطائفة الثانية للتشريعات الجنائية الخاصة، فأبرز مثال لها يكمن في قانون الأحداث. وسنحاول فيما يلي الإجابة على التساؤل عن مدى ملائمة اللجوء إلى إصدار بعض التشريعات الجنائية الخاصة، وعن السبب وراء عدم تضمينها في قانون العقوبات العام. 

وفي الإجابة على هذا التساؤل، سنقوم أولا بالبحث في مدى ملائمة تخصيص قانون للأحداث، ثم نتبع ذلك بالحديث عن مدى ملائمة تخصيص قانون لجرائم المخالفات.

المبحث الأول
مدى ملائمة تخصيص قانون للأحداث

تمهيد وتقسيم:
يثور التساؤل عن مدى ملائمة تخصيص قانون للأحداث الجانحين، أو إدراج الأحكام الخاصة بهم في قانوني العقوبات والإجراءات.

وفي الإجابة على هذا التساؤل، يمكن القول بأن التشريعات المقارنة لا زالت تختلف في الأخذ بأي النظامين، لا فرق بين قديمها وحديثها. فمن التشريعات الحديثة ما ينص على التدابير والعقوبات المقررة للأحداث في القسم العام من قانون العقوبات، ومنها ما يخصص قانونا منفصلا لجنوح الأحداث. وسنتناول هذين الاتجاهين تباعا، وذلك في مطلبين على النحو التالي.

المطلب الأول
إدراج الأحكام الخاصة بالأحداث في قانون العقوبات

تنص بعض التشريعات المقارنة على التدابير والعقوبات المقررة للأحداث في القسم العام من قانون العقوبات، مع إيراد الأحكام الشكلية في قانون الإجراءات الجنائية. ويأخذ بهذا الاتجاه قانون العقوبات اليوناني الصادر سنة 1950م (المواد 121 – 133)، وقانون العقوبات الحبشي الصادر سنة 1957م (المواد 161 – 182)، وقانون العقوبات اليوغوسلافي الصادر سنة 1958م (المواد 64 – 79)، وقانون العقوبات الروسي الصادر سنة 1960م (المواد 58 – 63).

ويستند هذا النظام إلى أن من غير الملائم جمع أحكام مادية وأخرى إجرائية في موضع واحد بغير مبرر. ذلك أن فكرة القانون الخاص لا يبررها إلا أن تكون النصوص التي يتضمنها هذا القانون عرضة للتغيير من آن لآخر، مما لا يوفر للقانونين الأساسيين ما يجب لهما من ثبات واستقرار. وهذا الاعتبار غير قائم بالنسبة للأحكام الخاصة بالأحداث. فقلما يطرأ عليها تغيير إلا أن يكون جزءا من تعديل القانون في جملته().  

المطلب الثاني
تخصيص قانون مستقل للأحداث

   يقوم هذا النظام على أساس تخصيص قانون مستقل لجنوح الأحداث، يضم بين دفتيه كلا من الأحكام الموضوعية والأحكام الإجرائية الخاصة بالأحداث الجانحين. وفي التشريعات التي تأخذ بهذا النظام يكتفى في قانون العقوبات بنصوص قليلة تنطوي على المبادىء العامة، كتحديد سن المسئولية الجنائية ومدى تخفيض العقوبة. ويأخذ بهذا الاتجاه العديد من التشريعات الجنائية المقارنة، كما هو الحال بالنسبة لقانون الأحداث البرتغالي الصادر في 27 مايو سنة 1911م، وقانون الأحداث الفرنسي الصادر في الثاني من فبراير سنة 1945م().

وتتبنى غالبية القوانين العربية ذات الاتجاه. ويبدو أن الأردن أول الدول العربية التي أصدرت قانونا خاصا بالمجرمين الأحداث، والقانون رقم 83 لسنة 1951م. كذلك، سلكت العديد من الدول العربية ذات المسلك، كما هو الحال بالنسبة للمشرع السوري (المرسوم التشريعي رقم 58 لسنة 1953م)، والمشرع العراقي (القانون رقم 44 لسنة 1955م، وقد استبدل به القانون رقم 11 لسنة 1962م، والمعدل بالقانون رقم 48 لسنة 1964م)، والمشرع المصري (القانون رقم 31 لسنة 1974م؛ القانون رقم 11 لسنة 1996م بشأن حقوق الطفل)، والمشرع الإماراتي (القانون الاتحادي رقم 9 لسنة 1976م في شأن الأحداث الجانحين والمشردين) والمشرع الكويتي (القانون رقم 3 لسنة 1983م في شأن الأحداث).

ويستند هذا النظام إلى أن جنوح الأحداث لا يعتبر ظاهرة إجرامية تستوجب القمع، وإنما هو ظاهرة اجتماعية تستدعي الرعاية والوقاية. فينبغي إذن أن يكون للحداثة تقنينها الجامع المتضمن سياسة مكافحة الانحراف لديها من ناحيتيها الموضوعية والإجرائية في اتساق وتناسق وسهولة استدلال على الأحكام، بدلا من تناثرها في قوانين العقوبات والإجراءات وتشرد الأحداث(). ولعل هذا المعني يبدو جليا في المذكرة الإيضاحية للقانون الكويتي في شأن الأحداث، والتي تعتبر «رعاية الأحداث ووقايتهم من الانحراف وعلاج مشكلاتهم في سن مبكرة ورعاية المنحرف منهم هي الخط الأول في الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة، إذ يمثل الأحداث النواة الأولى للثروة البشرية التي هي عماد التنمية في أي بلد، ومن ثم يجب أن تمتد إليهم يد الرعاية الاجتماعية حتى يكتمل تكيفهم الاجتماعي وإنماء قدراتهم الإنتاجية. وأهم صور هذه الرعاية هو إبعاد الحدث عن كافة المؤثرات التي قد تؤدي به إلى الانحراف أو تعرضه له، وإخضاعه للإشراف والتوجيه الاجتماعي من أجل المحافظة عليه وضمان تجاوبه مع المجتمع. وقد دلت التجارب وكشفت الإحصاءات عن أن الحدث المنحرف هو النبت الأول للمجرم البالغ، لذا تكاتفت القوى وتضافرت على النهوض بهذا الحدث والأخذ بيده وإرشاده سواء السبيل. لهذا فقد اتجه المشروع إلى إبعاد الحدث – منحرفا كان أو معرضا للانحراف – عن نطاق القانون الجزائي، وأوجب أن يكون للحداثة تقنينها الجامع، وتتجلى سياسة المشروع في الرعاية الاجتماعية للحدث في مواجهة تعرضه للانحراف وعدم الانتظار حتى تقع منه الجريمة ومعالجته إذا انحرف بتدابير اجتماعية خالية من معنى الإيلام المتوافر في العقوبات»().

المبحث الثاني
مدى ملائمة تخصيص قانون للمخالفات

تمهيد وتقسيم:
يجري الفقه الجنائي على تقسيم الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات، وهو ما يعرف بالتقسيم الثلاثي للجرائم().  

المطلب الأول
المخالفات في خطة التشريعات المقارنة

الغالب في التشريعات العربية أن تتضمن مدونة قانون العقوبات الأنواع الثلاثة من الجرائم. فعلى سبيل المثال، يأخذ المشرع المصري بمبدأ وحدة قانون العقوبات. بيان ذلك أن قانون العقوبات المصري ينقسم إلى كتب أربعة، خص منها بالقسم العام الكتاب الأول، والذي يحمل عنوان «أحكام ابتدائية»، وضمن نصوص القسم الخاص في الكتب الثلاثة الأخرى، فخص الكتابين الثاني والثالث بالجنايات والجنح، وأفرد الكتاب الرابع والأخير للمخالفات. وهكذا، يدرج المشرع المصري المخالفات في صلب قانون العقوبات ذاته. ويتبنى ذات النظام أيضا قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969م. وإذا كان قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة رقم 3 لسنة 1987م يتبنى تبويبا مغايرا للجرائم، إلا أنه يدرج المخالفات في المدونة العقابية. بيان ذلك أن 

ولكن قلة من التشريعات تتبنى نظام الازدواج؛ بحيث يقتصر قانون العقوبات على الجنايات والجنح، بينما تكون المخالفات في مجموعة مستقلة يطلق عليها قانون العقوبات الإداري، ويكون لكل من المجموعتين أحكاما خاصة فيما يتعلق بالتجريم والعقاب والإجراءات والتنفيذ. ويأخذ بهذا النظام قانون العقوبات في دولة النمسا الصادر سنة 1974م، وقانون العقوبات في ألمانيا الاتحادية لسنة 1975م، وقانون العقوبات الروسي وقانون العقوبات اليوغوسلافي. وبهذا النظام، يأخذ المشرع الكويتي في قانون الجزاء رقم 16 لسنة 1960م، والذي قسم الجرائم إلى جنايات وجنح، أما المخالفات فقد أخرجها من نطاقه()

ومن التشريعات، كالقانون اليوناني وقانون العقوبات المجري الصادر سنة 1950م، ما يضع الضوابط العامة للمخالفات في المدونة ويحدد الأفعال المكونة لها في قوانين خاصة. ومنها ما يجعل المدونة قاصرة على الجرائم ما عدا المخالفات، فيصدر بها قانون خاص. وهذا هو الوضع السائد في بعض الدول مثل بولندا وروسيا().

وقد تأثر مشروع قانون العقوبات المصري الذي وضع سنة 1966م بهذا الاتجاه، فأخرج المخالفات من نطاق القسم الخاص، ونص على أحكامها العامة في باب مستقل في نهاية القسم العام().

ويعني ذلك أن هذه الطائفة من التشريعات تقوم على فلسفة مؤداها إخراج المخالفات من نطاق قانون العقوبات، وإفراد مجموعة خاصة بها يتناولها المشرع بالتعديل كلما اقتضته مصلحة. ومن هذا القبيل قانون المخالفات الإدارية الصادر في ألمانيا الاتحادية سنة 1952م، وقانون المخالفات اليوغوسلافي لسنة 1958م، وقانون المخالفات الصادر في تشيكوسلوفاكيا سنة 1961م.

بل أن من التشريعات ما يذهب إلى أبعد من ذلك، فيعمد إلى إخراج المخالفات من نطاق التجريم، استنادا إلى أنها مجرد خروج على قواعد تنظيمية لا تعبر عن خطورة إجرامية لدى مرتكبها()

ويرجع بعض الفقه() السبب في نشأة نظام الازدواج إلى انتشار الأزمات والحروب، وما استتبعه ذلك من تفشي النزعة إلى تجريم صور عديدة من الأفعال والامتناع، كانت مباحة من قبل ولا تدل بذاتها على خطورة إجرامية، مما أسفر عن ظاهرة تضخم الجرائم(). ولما كانت أغلب الجرائم المستحدثة من المخالفات، فقد أوحى ذلك باعتبار المخالفات عموما جرائم إدارية لا جنائية، بحيث تقوم الإدارة بتتبع المخالف ومحاكمته وتنفيذ ما تحكم به. 

المطلب الثاني
الخلاف الفقهي بشأن تخصيص قانون للمخالفات

يؤيد بعض الفقه() فكرة تخصيص مجموعة مستقلة للمخالفات، وذلك لاعتبارات شتى؛ أولها، أن المخالفات هي أكثر الجرائم تعرضا للتعديل، وإدماجها في قانون العقوبات لا يوفر له القدر اللازم من الاستقرار. ثم أنها لا تخضع لبعض الأحكام العامة في التجريم والعقاب وقواعد الإجراءات الجنائية؛ فلا يعاقب على الشروع فيها أو الاتفاق الجنائي عليها، ولا يوقف تنفيذ العقوبة الصادرة فيها، ولا تشدد عقوبتها في حالة العود، ولا تدرج الأحكام الصادرة بعقوبة من أجلها في صحيفة السوابق، وغير ذلك. فمن المصلحة إذن أن تجمع المخالفات في قانون مستقل يتضمن أحكامها الخاصة. بالإضافة إلى ما سبق، يلاحظ أن المخالفات المنصوص عليها في قانون العقوبات تشكل نسبة ضئيلة من المخالفات عموما، فأغلبها وارد في قوانين جنائية خاصة. ومن ثم، يغدو من المرغوب فيه أن يقتصر قانون العقوبات على الجنايات والجنح، وتفرد مجموعة خاصة للمخالفات يسهل تعديلها بالحذف والإضافة().

والمؤيدون لهذا النظام يرون فيه تبسيطا للإجراءات وتخفيفا عن كاهل السلطة القضائية في جرائم قليلة الضرر أو الخطر، بما لا يستأهل الضمانات المقررة للجنايات والجنح. ويقول الفقهاء الألمان أن هناك فرقين جوهريين بين المخالفة الإدارية والجريمة الجنائية؛ أولهما – أن المخالفة لا تكون اعتداء على مصلحة عامة أو مصلحة للمجتمع، فهي مجرد خروج على النظام أو عدم إطاعته أو هي إحداث لضرر إداري فحسب. أما الفرق الثاني فيظهر في الركن المعنوي. ففي الجريمة الجنائية يلزم العمد أو الإهمال، أما في المخالفة الإدارية فيفترض الخطأ في كثير من الأحوال.

وإذا كان المشرع المصري قد ميز بين كل من الجنايات والجنح من ناحية والمخالفات من ناحية أخرى، فإن إفراد الكتاب الرابع من قانون العقوبات لأحكام المخالفات هو محل للنقد؛ فالمخالفات جرائم قليلة الأهمية، وهي كثيرة عددا، وهي أيضا غير قابلة للثبات. إذ كثيرا ما يتدخل المشرع لتعديلها. لذا كان من الأفضل لو اختصها المشرع بقانون خاص بها. إذ بذلك يمكن تحقيق الاستقرار لنصوص المدونة العقابية()

ويؤكد بعض الفقه أن قانون المخالفات عندئذ لا يعد فرعا آخر لقانون العقوبات، وإنما يعتبر قانونا مكملا له أو ملحقا به، بحيث أنه فيما عدا الأحكام الخاصة الواردة في قانون المخالفات تجري عليها الأحكام العامة في قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية. وبعبارة أخرى، يجب أن تبقى لقانون العقوبات وحدته، بحيث يفيد المخالف من الضمانات المقررة لمن يرتكب جنحة أو جناية، وعلى الأخص في أدوار الخصومة العقابية. ولا تتأثر هذه الوحدة بتخصيص مجموعتين لقانون العقوبات، أو بخص المخالفات بأحكام مختلفة في العقوبات والإجراءات والتنفيذ. فهذه الأحكام من القلة بالقياس إلى الأحكام العامة، بما لا يسوغ معه القول أنها تكون قانون عقوبات خاص تحت اسم «قانون العقوبات الإداري»()

على النقيض من ذلك، يفضل بعض الفقه() الإبقاء على المخالفات في إطار القسم الخاص من المدونة العقابية، نظرا لاشتراكها مع الجنايات والجنح في طابع الإثم الأخلاقي. ثم أن قابلية القاعدة للتغير أو عدم الثبات ليس صفة قاصرة على المخالفات وحدها، وإنما تكون كل قاعدة قانونية عرضة لذلك. 

المطلب الثالث
ترجيح استبعاد المخالفات من قانون العقوبات

تدعيما لهذا الرأي، يسوغ القول بأن إدراج المخالفات في قانون العقوبات المصري، على سبيل المثال، قد كان له ما يبرره لحظة صدور هذا القانون. بيان ذلك أن المشرع المصري كان يقرر لبعض المخالفات عقوبة الحبس الذي لا يزيد أقصى مدته على أسبوع. ولذلك، كان المشرع المصري يميز بين الحبس كعقوبة للجنحة والحبس كعقوبة للمخالفة في ضوء مدة الحبس، وما إذا كان يزيد أقصى مدته على أسبوع أم لا. فقد كانت المادة 11 عقوبات مصري تنص على أن «الجنح هي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية: الحبس الذي يزيد أقصى مدته على أسبوع، الغرامة التي يزيد أقصى مقدارها على جنيه مصري». وكانت المادة 12 تنص على أن «المخالفات هي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية: الحبس الذي لا يزيد أقصى مدته على أسبوع، الغرامة التي لا يزيد أقصى مقدارها على جنيه مصري». ولما كان سلب الحرية، ولو لمدة لا تزيد على سبعة أيام، يشكل عقوبة خطيرة، لذا كان من الطبيعي أن يحرص المشرع على إدراج المخالفات في صلب قانون العقوبات ذاته. ولكن هذا الوضع تغير كثيرا بصدور القانون رقم 169 لسنة 1981م بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات(). إذ ترتب على صدور هذا القانون إلغاء الحبس في المخالفات. وبناء على ذلك، تم تعديل المادة الحادية عشرة من قانون العقوبات، بحيث غدت تنص على أن «الجنح هي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية: الحبس. الغرامة التي يزيد أقصى مقدار لها على مائة جنية». وتم تعديل المادة الثانية عشرة، بحيث أصبح نصها يجري على النحو التالي: «المخالفات هي الجرائم المعاقب عليها بالغرامة التي لا يزيد أقصى مقدار لها على مائة جنيه». وقد استتبع إلغاء الحبس في المخالفات تقرير عقوبة بديلة لها. وقد تم ذلك بموجب المادة 376 عقوبات، والتي تنص على أن «تلغي عقوبة الحبس الذي لا يزيد أقصى مدته على أسبوع في كل نص ورد في قانون العقوبات أو في أي قانون آخر، وفي هذه الأحوال تضاعف عقوبة الغرامة المقررة بكل من هذه النصوص بحد أدنى مقداره عشرة جنيهات وبحد أقصى مقداره مائة جنيه». وهكذا، ألغى المشرع المصري الحبس في جرائم المخالفات. وبإلغاء الحبس في هذه الطائفة من الجرائم، نرى أنه لم يعد ثمة مبرر للإبقاء على المخالفات ضمن قانون العقوبات. 

ولعل هذه النظرة تتأكد في ضوء ملاحظة أن المادة 34 من الدستور الفرنسي الحالي تخول للسلطة التشريعية الحق في وضع النصوص القانونية التي تحدد الجرائم التي تدخل في نطاق الجنايات والجنح. أما المخالفات، ووفقا للمادة 37 من الدستور، فإن الاختصاص بشأنها يكون منوطا بالسلطة التنفيذية. وتأسيسا على ذلك، تنص المادة 111 البند الثاني من قانون العقوبات الفرنسي لسنة 1992م على أن «القانون يحدد الجنايات والجنح والعقوبات المقررة لها بينما تحدد اللوائح المخالفات والعقوبات المطبقة عليها وذلك في إطار ما رسمه القانون». وهكذا، يميز المشرع الدستوري والجنائي الفرنسي بين الجنايات والجنح من ناحية وبين المخالفات من ناحية أخرى، مقررا أن الأولى تدخل في اختصاص السلطة التشريعية بينما تكون الثانية من اختصاص السلطة التنفيذية. 

إجازة المجلس الدستوري الفرنسي التفويض التشريعي في غير العقوبات السالبة للحرية. 

أن عقوبة المخالفة في القانون المصري هي الغرامة وحدها. والغرامة ليست جزاء جنائيا خالصا، وإنما تعرف بعض التشريعات غير الجنائية الغرامة كجزاء لمخالفة بعض أحكامها. ومن هنا، يتحدث الفقه عن الغرامة المدنية التي تنص عليها بعض القوانين كجزاء لسلوك أو لأفعال تشكل مخالفة لأحكام قواعد غير جنائية كما هو الشأن في الغرامات المقررة بقانون المرافعات في حالة رفض طلب رد المحكمة، أو ما يحكم به في حالة الحكم بصحة المستند المدعى تزويره. وكذلك ما هو مقرر في قانون الإجراءات الجنائية في حالة الحكم برفض الطعن بالنقض والحكم برفض دعوى التزوير الفرعية. فالمشرع في الغرامات المدنية لا يهدف بتقريرها إلى زجر المحكوم عليه وإيلامه، وإنما يرمي إلى إلزام الخصوم والأفراد بضرورة مراعاة الجدية في الإجراءات التي يباشرونها. كذلك، يتحدث الفقه عن الغرامة التأديبية التي تنص عليها بعض القوانين الإدارية والتنظيمية كجزاء تأديبي نتيجة الإخلال بواجبات معينة، كما هو الشأن في الغرامة التي ينص عليها القانون المصري رقم 92 لسنة 1949م في شأن المهن الطبية(). ومن ثم، يثور التساؤل عن السبب وراء إفراد الغرامة الجنائية بالضمانات الدستورية للقضاء الجنائي، وما هو وجه الفارق بينها وبين الغرامات المدنية والتأديبية. ولماذا لا يترك أمر الفصل بشأنها لجهة الإدارة، فيما يعرف بالقانون الجنائي الإداري.

من ناحية أخرى، فإن الجزاء الجنائي يتسم بأنه الملاذ الأخير، وأن المشرع الجنائي لا يتدخل إلا عند فشل الجزاءات المقررة في القوانين الأخرى في ضمان امتثال المخاطبين بأحكامها. ولا يكون القانون الجنائي كذلك إلا إذا كانت الجزاءات الواردة به مما ينفرد بها عن فروع القانون الأخرى.

من ناحية ثالثة، تنفرد المخالفات عن الجنايات والجنح بالعديد من الأحكام القانونية، يستوي في ذلك الأحكام الموضوعية والأحكام الإجرائية. فعلى سبيل المثال، . ومن الناحية الإجرائية، تنص المادة 301 من قانون الإجراءات الجنائية المصري على أن «تعتبر المحاضر المحررة في مواد المخالفات حجة بالنسبة للوقائع التي يثبتها المأمورون المختصون إلى أن يثبت ما ينفيها». ومفاد هذه الحجية أن حجية المحضر تقتصر على مواد المخالفات، دون غيرها من مواد الجنايات والجنح. وتقتصر حجية المحضر على الوقائع المتعلقة بالمخالفة التي حرر في شأنها: ومن ثم، لا حجية له بالنسبة لجنحة ترتبط بهذه المخالفة ارتباطا لا يقبل التجزئة. ويؤكد الفقه أن العلة في اعتبار هذه المحاضر حجة في مواد المخالفات أنها جرائم يسيرة لا تستأهل أن تخضع المحاضر التي تثبتها للقواعد العامة، ويندر أن يكون ثمة دليل آخر عليها سوى هذه المحاضر. فإذا لم يعترف لها المشرع بهذه الحجية، فإن المخالفات التي تثبتها لن يوقع عليها في الغالب عقاب().

أن القضاء الدستوري يتجه إلى مد نطاق تطبيق كثير من أحكام العقوبات إلى سائر الجزاءات التأديبية والإدارية. ومن ثم، لن يكون ثمة ضير من إخراج المخالفات من قانون العقوبات. فعلى سبيل المثال
   
وأخيرا، يلاحظ أن قانون العقوبات المصري قد صدر في عام 1937م، أي في تاريخ سابق على نشأة القضاء الإداري في مصر، والذي يرجع إلى سنة 1946م. ونعتقد أن نشأة القضاء الإداري المصري من شأنه تعزيز الرأي القائل بإخراج المخالفات من قانون العقوبات. 

المبحث الثالث
مدى ملائمة تخصيص قانون لغسل الأموال

تمهيد وتقسيم:
يعتبر غسل الأموال سلوكا إجراميا تابعا يفترض سبق ارتكاب جريمة أولية، وذلك بهدف تمويه وإخفاء المصدر غير المشروع للأموال المتحصلة من النشاط الإجرامي السابق. ومن ثم، فقد ثار التساؤل عما إذا كان وصف المساهمة التبعية اللاحقة يمكن أن ينطبق على غسل الأموال. كذلك يثور التساؤل عما إذا كانت هذه العملية يمكن أن تشكل تطبيقا لجريمة إخفاء الأشياء المسروقة أو المتحصلة من جناية أو جنحة. وستكون الإجابة على هذين التساؤلين هي محور الدراسة في هذا المبحث، كما يلي.

المطلب الأول
غسل الأموال في ضوء النظرية العامة للمساهمة التبعية

المساهمة الجنائية التبعية هي نشاط يرتبط بالفعل الإجرامي ونتيجته برابطة السببية، دون أن يتضمن تنفيذا للجريمة أو قياما بدور رئيسي في تنفيذها(). وتجمع التشريعات الجنائية على اعتبار المساعدة إحدى وسائل المساهمة التبعية في الجريمة، وتجمع كذلك على الاعتراف للمساعدة بنطاق متسع، كي تحيط بكل الحالات التي يكون فيها لمجهود الجاني دور في ارتكاب الجريمة(). ولا جدال في تحقق المساهمة التبعية إذا كانت أفعال المساعدة سابقة أو معاصرة لتنفيذ الجريمة، غير أن التساؤل يثور حول الحكم القانوني إذا كانت أفعال المساعدة لاحقة على اقترافها، ويتحقق ذلك إذا كان الفعل اللاحق على ارتكاب الجريمة يتصل بها على نحو وثيق، بحيث يتجه إلى تمكين الفاعل من الاحتفاظ بثمراتها أو استغلالها أو إعدام أدلتها أو الفرار من الإجراءات الجنائية الناشئة عنها. ولا شك أن كل ذلك يصدق على غسل الأموال المتحصلة من نشاط إجرامي. 

تعترف بعض التشريعات بالاشتراك اللاحق على الجريمة، ومثال ذلك يكمن في القانون الإنجليزي الذي يعرف الشريك في الجريمة بعد وقوعها()، ويقصد به من كان عالما بوقوع الجريمة وآوى لديه مرتكبها أو أنقذه أو ساعده(). وقد أخذ المشرع الكويتي بهذا المذهب، حيث تنص المادة 49 من قانون الجزاء على أن «يعد شريكا في الجريمة بعد وقوعها من كان عالما بتمام ارتكاب الجريمة وصدر عنه فعل من الأفعال الآتية: أولا- إخفاء المتهم بارتكابها، سواء كان فاعلا أصليا للجريمة أو كان شريكا فيها قبل وقوعها. ثانيا- إخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها، ويستوي أن يتعلق الإخفاء بذات الأشياء المتحصلة أو المستعملة في ارتكاب الجريمة أو يتعلق بأشياء استبدلت بها أو نتجت من التصرف فيها. ثالثا- حصول الشريك، بوجه غير مشروع، وهو عالم بذلك، على منفعة لنفسه أو لشخص آخر من وراء ارتكاب الجريمة».   

على خلاف ذلك، تذهب طائفة أخرى من التشريعات إلى رفض الاعتراف بالاشتراك اللاحق على الجريمة، ولكن يمكن اعتبار الأفعال اللاحقة جرائم مستقلة عن الجريمة السابقة. ففي القانون الإماراتي، استقر الفقه والقضاء على أن أفعال المساعدة اللاحقة على لحظة تمام السلوك الإجرامي لا تشكل اشتراكا في الجريمة()، اللهم إلا إذا كانت بناء على اتفاق سابق على ارتكابها(). وتطبيقا لذلك، أكدت محكمة تمييز دبي أن «أعمال المساعدة اللاحقة للجريمة لا تصلح وسيلة للاشتراك. فإذا أقام الحكم المطعون فيه قضاءه ببراءة المتهمة الثانية من جريمة الاشتراك في الإجهاض بمجرد مساعدة المتهمة الأولى في إخراج الميت بعد تمام جريمة الإجهاض، فانه يكون قد صادف صحيح القانون ويكون منعى النيابة العامة على الحكم المطعون فيه في هذا الخصوص غير مقبول»(). ويستند هذا القضاء إلى نص المادة 45 ثالثا من قانون العقوبات الاتحادي التي تنص على أن «يعد شريكا بالتسبب في الجريمة... من أعطى الفاعل سلاحا أو آلات أو أي شيء آخر استعمله في ارتكاب الجريمة مع علمه بها أو ساعد الفاعل عمدا بأي طريقة أخرى في الأعمال المجهزة أو المسهلة أو المتممة لارتكاب الجريمة...». ويستفاد من هذا النص أن الاشتراك لا يتحقق إلا إذا كان فعل المساعدة سابقا على ارتكاب الجريمة أو على الأقل معاصرا لها. بيان ذلك أن النص المذكور يحدد لحظة وقوع المساعدة التي تجعل الشخص شريكا في الجريمة، بحيث تندرج تحت إحدى حالات ثلاث: أولها، المساعدة في الأعمال المجهزة للجريمة، كأن يعطي الفاعل سلاحا أو أدوات لكي يستعملها في ارتكاب الجريمة. وثانيها، المساعدة في الأعمال المسهلة لارتكاب الجريمة، كما هو الحال بالنسبة للخادم الذي يترك الباب مفتوحا تسهيلا لعمل الجاني الذي يأتي فيما بعد لسرقة المكان، وبدون أن يكون بينهما اتفاق على ذلك. وثالثها، المساعدة في الأعمال المتممة للجريمة كمن يزود السارق بسيارة ليقوم بنقل المسروقات من مكان السرقة دون أن يقوم الشريك بقيادة السيارة أثناء عملية النقل. وهذه المراحل الثلاث مرتبة ترتيبا زمنيا بحيث تبدأ بالأعمال المجهزة وتنتهي بالأعمال المتممة مرورا بالأعمال المسهلة. فإذا ما تمت الجريمة بتمام تنفيذ الركن المادي، لم يعد ممكنا الاشتراك فيها، إلا إذا كان ذلك بناء على اتفاق سابق على وقوع الجريمة. فالمساعدة كوسيلة للاشتراك في الجريمة تفترض تقديم العون إلى الفاعل لتمكينه من تنفيذها، فإذا ما انتهى التنفيذ لم يعد محل للعون أو التعضيد. ولعل ذلك ما دفع المشرع الإماراتي إلى أن يفرد نصوصا خاصة لتجريم بعض أفعال المساعدة اللاحقة على ارتكاب الجريمة كما هو الشأن في إخفاء الأشياء المتحصلة من جريمة (المادة 407 من قانون العقوبات الاتحادي)، أو إخفاء جثة القتيل (المادة 271 عقوبات اتحادي)، أو إيواء الفارين من العدالة (المادتان 171، 286 عقوبات اتحادي)().

وتتبنى بعض التشريعات العربية الأخرى نفس القاعدة، كما هو الحال في قانون العقوبات المصري، وقانون العقوبات الليبي، وقانون العقوبات السوداني(). وقد أكدت محكمة النقض المصرية – في أكثر من مناسبة – هذه القاعدة، فقررت أن «أعمال المساعدة لا تعد اشتراكا إلا إذا كانت سابقة أو معاصرة للجريمة، وإذن فلا اشتراك بأعمال لاحقة للجريمة»(). وقررت كذلك أن «الأصل في القانون أن الاشتراك في الجريمة لا يتحقق إلا إذا كان التحريض أو الاتفاق سابق على وقوعها، وأن تكون المساعدة سابقة أو معاصرة لها، وأن يكون وقوع الجريمة ثمرة لهذا الاشتراك. يستوي في ذلك أن تكون الجريمة وقتية أو مستمرة»().

وترتيبا على ما سبق، وبالنظر إلى أن غسل الأموال يأتي بعد تمام ارتكاب الجريمة أو الجرائم الأولية، فإن هذا الفعل لا يندرج تحت مفهوم المساهمة التبعية في ظل التشريعات التي لا تعترف بالاشتراك اللاحق على الجريمة. وإذا كانت بعض التشريعات تعترف بالاشتراك اللاحق على الجريمة، فإن إسباغ وصف المساهمة الجنائية التبعية على نشاط غسل الأموال لا يضمن ملاحقة جنائية فعالة في مواجهة هذا النشاط. توضيح ذلك أن نشاط غسل الأموال يأخذ في الغالب طابعا دوليا بحيث تتوزع الأدوار فيه بين أكثر من دولة أو تتوزع مراحل الغسل على أكثر من مؤسسة مالية أو مصرفية كل منها تقع في دولة مختلفة. فإذا أخذنا في الاعتبار اختلاف التشريعات بشأن الاشتراك اللاحق على الجريمة، غدا منطقيا القول بأن عمليات غسل الأموال قد لا تخضع للتجريم في بعض الأحوال. ومرجع ذلك أن المبدأ الأساسي الذي يحدد نطاق سريان النص الجنائي من حيث المكان هو «مبدأ إقليمية النص»، أي تطبيقه على كل جريمة ترتكب في الإقليم الذي يسري فيه النص. والقاعدة السائدة في القانون المقارن تقضي بأن الفعل الذي تقوم به المساهمة الأصلية في الجريمة هو الذي يحدد مكان ارتكابها، ويحدد بناء على ذلك القانون الذي تخضع له، أما الفعل الذي تقوم به المساهمة التبعية في الجريمة فليس له هذا الشأن(). ويعني ذلك أن تشريعات الدولة التي يتم فيها غسل الأموال قد لا تسري على هذا النشاط لكونه مجرد فعل من أفعال المساهمة التبعية. وفي ذات الوقت، فإن الدولة التي تقع الجريمة الأصلية على إقليمها قد لا تسري تشريعاتها على نشاط غسل الأموال باعتباره واقعا خارج حدودها(). بالإضافة إلى ذلك، يذهب الرأي الغالب فقها وقضاء إلى أن المساعدة في كل صورها تتطلب نشاطا ايجابيا يبذله المساعد ويقدم عن طريقه العون إلى الفاعل. أما الموقف السلبي المتمثل في القعود عن الحيلولة دون وقوع الجريمة على الرغم من استطاعة ذلك، أو الامتناع عن إبلاغ أمرها إلى السلطات العامة قبل وقوعها كي تعمل على منعها فهو غير كاف لتحقق المساعدة(). وقد أكدت محكمة النقض المصرية ذلك في عبارة قاطعة مفادها أن «الاشتراك في الجريمة لا يتكون إلا من أعمال ايجابية، ولا ينتج أبدا من أعمال سلبية»(). وبناء على ذلك، لا يمكن اعتبار البنك مساهما تبعيا إذا اقتصر دوره على مجرد القعود عن القيام بواجب رقابة مصدر الأموال غير النظيفة أو جهة تحويلها().      

المطلب الثاني
غسل الأموال في ضوء النصوص الخاصة بجريمة الإخفاء

رأينا فيما سبق أن غالبية التشريعات لا تعترف بالاشتراك اللاحق على الجريمة، ولكن تلجأ إلى تجريم بعض الأفعال اللاحقة على تمام الجريمة واعتبارها جرائم مستقلة عن الجريمة الأولى(). ففي القانون الإماراتي، على سبيل المثال، تنص المادة 407 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «من حاز أو أخفى أشياء متحصلة من جريمة مع علمه بذلك ودون أن يكون قد اشترك في ارتكابها يعاقب بالعقوبة المقررة للجريمة التي يعلم أنها قد تحصلت منها. وإذا كان الجاني لا يعلم أن الأشياء تحصلت من جريمة ولكنه حصل عليها في ظروف تحمل على الاعتقاد بعدم مشروعية مصدرها تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر والغرامة التي لا تجاوز خمسة آلاف درهم أو إحدى هاتين العقوبتين». وتنص المادة 44 مكررا من قانون العقوبات المصري على أن «كل من أخفى أشياء مسروقة أو متحصلة من جناية أو جنحة مع علمه بذلك يعاقب بالحبس مع الشغل مدة لا تزيد على سنتين. وإذا كان الجاني يعلم أن الأشياء التي يخفيها متحصلة من جريمة عقوبتها أشد، حكم عليه بالعقوبة المقررة لهذه الجريمة». فهل يمكن النظر إلى نشاط غسل الأموال باعتباره صورة من صور الإخفاء ؟

اختلف الفقهاء في الإجابة على هذا التساؤل، حيث يذهب بعض الفقه() إلى صعوبة اعتبار نشاط غسل الأموال صورة من جريمة الإخفاء. بيان ذلك أنه يشترط لتحقق هذه الجريمة أن يصدر من الجاني نشاط ايجابي يتمثل في حيازة الشيء أو تسلمه أو حجزه، أو أن يكون سلطانه مبسوطا عليه ولو لم يكن في حيازته الفعلية(). وقبول البنك إيداع الأموال في الحساب الجاري لأحد العملاء لا يعني أنه قد أصبح حائزا بالفعل لهذه الأموال، وإنما يبقى حق التصرف في المال حكرا على صاحب الحساب المصرفي وحده. ولا يتجاوز دور البنك مجرد تسجيل العملية المصرفية في الجانب الدائن أو المدين لحساب العميل. وبناء على ذلك، فإن قبول البنك إيداع أموال متحصلة من مصدر غير مشروع لا يعني أنه يحوزها باسمه ولحسابه، وإنما تظل هذه الأموال باسم ولحساب المستفيد منها. بالإضافة إلى ذلك، فإن مجرد امتناع البنك عن فحص مصدر الأموال المودعة أو عن التثبت من حقيقة العملية المصرفية لا يعدو أن يكون موقفا سلبيا لا تقوم به جريمة الإخفاء ولا يخضع بالتالي للتجريم في ظل غياب نص قانوني يعاقب على هذا الامتناع().        

غير أن رأيا آخر في الفقه() يذهب إلى أن التحليل الدقيق لنص المادة 44 مكرر من قانون العقوبات المصري يقود إلى القول باستيعاب جريمة إخفاء الأشياء ذات المصدر غير المشروع لنشاط غسل الأموال. ويستند هذا الرأي إلى عدة حجج: فمن ناحية، يلاحظ عمومية النص التشريعي، والتي تسمح بشمول محل الجريمة للأموال المتحصلة من أية جريمة. فلم يحدد المشرع على وجه الحصر الجريمة الأولية التي يمكن إخفاء متحصلاتها، وبالتالي فكل جريمة بما في ذلك الاتجار في المخدرات يجوز معاقبة من أخفى أو حاز عائداتها بوصفه مرتكبا لجريمة مستقلة. والشرط الوحيد لذلك في القانون المصري أن تكون هذه الجريمة موصوفة بأنها جناية أو جنحة. ولا وجود لمثل هذا الشرط في القانون الإماراتي، وإن كان من النادر عملا أن تنتج عن المخالفات أموال ذات قيمة بحيث يحتاج الجاني إلى إخفاءها. ومن ناحية أخرى، وفيما يتعلق بالركن المادي لهذه الجريمة، لم يقتصر القانون الإماراتي على استخدام الفعل «أخفى» وإنما يستخدم أيضا الفعل «حاز». وعلى الرغم من أن المشرع المصري قد استخدم فقط لفظ «الإخفاء»، فالرأي مستقر فقها() وقضاء() على عدم اختزال هذا المصطلح في مجرد الإخفاء أو الاحتباس المادي للشيء الناتج عن الجريمة، وإنما يستوعب مصطلح الإخفاء صورا متنوعة كالحيازة والاستعمال والانتفاع والوساطة في بيع الشيء وتداوله ولو كان هذا الوسيط أو المفاوض لم يتصل ماديا بالشيء المتحصل من الجريمة. وبالتالي فإن الدور الذي يقوم به البنك في قبول أو تحويل أو استثمار أو استخدام الأموال والعائدات المتحصلة من جريمة يندرج دون شك تحت النموذج الإجرامي اللازم قانونا لقيام جريمة الإخفاء. ويستوعب هذا التكييف على وجه الخصوص إعادة استثمار عائدات المخدرات في مشروعات نظيفة. ولا يغير من ذلك إمكان تدوير هذه العائدات في دورات استثمارية متعاقبة، إذ أن القضاء الجنائي يوسع حاليا من دائرة العقاب ويلاحق حيازة الأموال غير المشروعة أيا كانت الصورة التي تتحول إليها هذه الأموال، وهو ما يعرف بفكرة الحلول العيني(). وإذا كان صعبا – من منظور التحليل الفني لطبيعة العمليات المصرفية – اعتبار البنك حائزا بالفعل للأموال المودعة في الحساب المصرفي لأحد عملائه والمتحصلة من مصدر غير مشروع، فإن من الجائز اعتباره على الأقل منتفعا أو مستفيدا من وراء هذه الأموال، إذ لا شك في كونها تزيد من مجموع أرصدة البنك ومجموع العمليات المصرفية التي يقوم بها. وقد اعتنقت محكمة استئناف باريس هذا الرأي حيث قضت – في أحد أحكامها – بأن جريمة إخفاء الأشياء تتحقق حين يقوم البنك بقبول إيداع أموال يعلم بمصدرها غير المشروع في الجانب الدائن لحساب مصرفي على المكشوف، حيث يعتبر البنك مستفيدا من هذه العملية().       

ولتدعيم الرأي الثاني، لعله من المفيد الإشارة إلى أن النص في التشريع المصري على جريمة إخفاء الأشياء المسروقة أو المتحصلة من جناية أو جنحة قد ورد في الكتاب الأول من قانون العقوبات. ويتضمن هذا الكتاب المبادىء العامة لقانون العقوبات أو ما اصطلح على تسميته بالقسم العام من قانون العقوبات. ويمكن الاستدلال بذلك على أن المشرع المصري قد أراد نطاقا متسعا لهذه الجريمة بحيث تشمل الأموال المتحصلة من أية جريمة، طالما أن هذه الجريمة يصدق عليها وصف الجناية أو الجنحة. ومع ذلك، يبقى أن وصف نشاط غسل الأموال بالإخفاء قد يؤدي إلى إفلات الغاسل من الملاحقة أو المسئولية الجنائية. وتبدو هذه الصعوبة في ضوء الطابع الدولي لجريمة غسل الأموال، بحيث يحدث في الغالب من الأحوال أن ترتكب الجريمة الأولية في دولة ما بينما يتم غسل الأموال الناجمة عن هذه الجريمة في دولة أخرى.

ولعل الأسباب سالفة الذكر كانت وراء إقدام المشرع الجنائي في معظم الدول على التجريم الصريح والمباشر لأفعال غسل الأموال. ومع ذلك، اختلفت التشريعات المقارنة فيما يتعلق بموضع النص على هذه الجريمة؛ فقد لجأت بعض الدول إلى إصدار تشريعات خاصة بتجريم غسل الأموال، كما هو الحال في القانون الألماني. وتتبنى كل الدول العربية هذا الاتجاه. وقد انحاز المشرع الإماراتي إلى هذا الخيار، فأصدر قانونا خاصا بغسل الأموال، هو القانون الاتحادي رقم 4 لسنة 2002م في شأن تجريم غسل الأموال().ويتكون هذا القانون من خمس وعشرين مادة، تحوي الأحكام الموضوعية والإجرائية الخاصة بجريمة غسل الأموال. وقد ثار التساؤل في مصر حول مدى ضرورة التجريم الخاص والمستقل لأنشطة غسل الأموال الناتجة عن الجريمة. وبعبارة أوسع، ثار التساؤل حول مدى الحاجة على الصعيد الوطني في مصر إلى قانون خاص لمكافحة غسل الأموال. وفي الواقع إن هذا القانون يعد ضرورة اجتماعية. ويمكن إجمال الاعتبارات التي يقوم عليها – (كما يتضح من آراء غالبية الفقه وتقرير اللجنة المشتركة من لجنتي الشئون الدستورية والتشريعية والشئون الاقتصادية عن مشروع قانون مكافحة غسل الأموال، والمذكرة الإيضاحية لمشروع هذا القانون) – في فكرتين رئيسيتين: (الأولى) هي ضرورة إظهار إرادة مصر في الوفاء بالتزاماتها الدولية المتعلقة بالتجريم الخاص لغسل الأموال. (الثانية) هي ضرورة الحفاظ على المصالح الوطنية المتعددة التي تصاب بالضرر وتلك المهددة بالخطر من عمليات غسل الأموال().

في المقابل، ارتأت بعض الدول الاكتفاء بإجراء تعديلات على التشريعات القائمة لتكون أكثر ملائمة لمواجهة عمليات غسل الأموال، كما هو الحال في القانون الفرنسي الذي أضاف فصلا جديدا إلى قانون العقوبات، وذلك بمقتضى القانون رقم 96 – 392 الصادر في 13 مايو 1996م()، وكما هو الشأن في القانون السويسري، حيث أضاف المشرع مادتين جديدتين إلى قانون العقوبات هما 305 مكرر و305 ثالث()

المبحث الرابع
مدى ملائمة تخصيص قانون للاتجار في البشر

في التاسع من نوفمبر سنة 2006م، صدر القانون الاتحادي رقم 51 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم الاتجار بالبشر. وطبقا للمادة الأولى من هذا القانون، يكون المقصود بالاتجار في البشر هو «تجنيد أشخاص أو نقلهم أو ترحيلهم أو استقبالهم بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو إساءة استعمال السلطة أو إساءة استغلال حالة الضعف أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال. ويشمل الاستغلال جميع أشكال الاستغلال الجنسي أو استغلال دعارة الغير أو السخرة أو الخدمة قسرا أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستبعاد أو نزع الأعضاء».

والواقع أن بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية ينص – في مادته الرابعة – على أنه لا قيام للمسئولية الجنائية على مرتكبي جرائم الاتجار بالبشر إلا إذا أخذت تلك الجرائم طابعا عبر وطني، وأن ترتكب الجريمة بواسطة جماعة إجرامية منظمة، وبالتالي ينتفي التجريم والعقاب حال غياب أحد هذين العنصرين أو كلاهما، كما لو كانت الجريمة ذات طابع وطني أو تم ارتكابها من جانب شخص واحد أو بمعرفة جماعة إجرامية غير منظمة()

خلافا للنهج السابق، لم يساير المشرع الإماراتي البروتوكول فيما ذهب إليه من نهج تجريمي ضيق، وإنما يسبغ وصف الاتجار في البشر على كافة صور السلوك الواردة في المادة الأولى من القانون الاتحادي رقم 51 لسنة 2006م، يستوي في ذلك أن تقع الأفعال المجرمة داخل الدولة أو خارجها، وبغض النظر عما إذا الجاني شخصا واحدا أو عصبة من الأشخاص، وسواء كان الجناة منتمين إلى جماعة إجرامية منظمة أم لا. فلا يعتد المشرع الجنائي الإماراتي بالعناصر سالفة الذكر في توافر أركان الجريمة، وكل ما يقرره في هذا الشأن هو تشديد العقوبة إذا كانت الجريمة عبر وطنية أو أن ترتكب بواسطة جماعة إجرامية منظمة، وبحيث تغدو العقوبة – عند توافر أحد هذين الظرفين – هي السجن المؤبد بدلا من السجن المؤقت الذي لا تقل مدته عن خمس سنوات(). ويتبنى ذات النهج كلا من القانون البحريني رقم 1 لسنة 2008م بشأن مكافحة الاتجار بالأشخاص (المادة الرابعة)، ومشروع القانون العربي النموذجي لمواجهة جرائم الاتجار بالأشخاص.

وعلى هذا النحو، قد يتساءل البعض عما إذا كان المشرع الاتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة بتشريعه قانونا خاصا وشاملا لمكافحة الاتجار بالبشر قد نسخ أو ألغى بعض المواد التي وردت في قانون العقوبات الاتحادي والتي تنظم بعض صور الاستغلال كاستغلال دعارة الغير أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد. وفي تعبير آخر، يثور التساؤل عما إذا كان المشرع الإماراتي بتشريعه قانونا شاملا لمكافحة الاتجار بالبشر يعاقب على ذات النموذج الإجرامي لجرائم استغلال دعارة الغير أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق والاستعباد، والتي ورد النص عليها في قانون العقوبات الاتحادي. وسبب التساؤل أن أفعال الاتجار في الرقيق تقع تحت طائلة التجريم بمقتضى المادة 346 من قانون العقوبات الاتحادي، والتي تنص على أن «يعاقب بالسجن المؤقت من أدخل في البلاد أو أخرج منها إنسانا بقصد حيازته أو التصرف فيه وكل من حاز أو اشترى أو باع أو عرض للبيع أو تصرف على أي نحو في إنسان على اعتبار أنه رقيق». وتقع هذه المادة ضمن الفصل الثاني من الباب السابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات الاتحادي، وقد ورد هذا الفصل تحت عنوان «الاعتداء على الحرية». ومما لا شك فيه أن الاتجار في الرقيق يشكل أبرز صور الاتجار بالبشر(). وفيما يتعلق باستغلال دعارة الغير كإحدى صور الاتجار بالبشر، يلاحظ أن المادة 366 من قانون العقوبات الاتحادي تنص على أن «يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات كل من استغل بأية وسيلة بغاء شخص أو فجوره». ومن ثم، يغدو من المنطقي التساؤل عما إذا كان صدور القانون الاتحادي بشأن مكافحة جرائم الاتجار في البشر يؤدي إلى الإلغاء الضمني لنص المادتين 346 و366 من قانون العقوبات الاتحادي، باعتبار أن النص اللاحق ينسخ النص السابق، أم أن من الجائز الجمع بين النصين بحيث يكون لكل منهما مجال تطبيق مختلف.

وفي الإجابة على هذا التساؤل، يرفض بعض الفقه() القول بأن النصوص الواردة في قانون مكافحة الاتجار بالبشر قد حلت محل نصوص التجريم الواردة في قانون العقوبات الاتحادي بشأن الاتجار في الرقيق واستغلال دعارة الغير. ويستند هذا الرأي إلى أن النص الوارد في القانون الاتحادي بشأن مكافحة الاتجار بالبشر أتى عاما وشاملا عما ورد في قانون العقوبات، حيث لم يقتصر على صورة استغلال دعارة الغير أو صورة الاسترقاق والممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد، بل تطرق إلى صور استغلال أخرى متمثلة في جميع أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسرا أو نزع الأعضاء. وبالتالي لا وجود لقاعدة أن اللاحق ينسخ السابق. أضف إلى ذلك أنه من المتصور أن تتعدد النصوص الجنائية للفعل الواحد. وفي هذه الحالة، فإنه يتم إعمال ما ورد في المادة 87 من قانون العقوبات الاتحادي، والتي تنص على أنه «إذا كون الفعل الواحد جرائم متعددة وجب اعتبار الجريمة التي عقوبتها أشد والحكم بعقوبتها دون غيرها».    

ولكن التساؤل يثور عن جدوى إعادة النص على الاتجار في الرقيق ضمن جرائم الاتجار بالبشر.

المبحث الخامس
مدى ملائمة تخصيص قانون للجرائم الالكترونية

تمهيد وتقسيم:
تختلف خطة التشريعات المقارنة في موضع النص على الجرائم الالكترونية. ويمكن التمييز في هذا الشأن بين أربعة اتجاهات: (الأول) يرى إصدار قانون خاص يعاقب فيه على الجرائم الالكترونية أو جرائم الحاسب الآلي بصورها المختلفة. ومن ضمنها الجرائم الماسة بالمستند الالكتروني، وغالبا ما يفرد هذا الاتجاه تشريعات خاصة تأخذ بفكرة المستند الالكتروني وتنظم أهم عناصره "كالسجلات والتوقيع الالكتروني والمعاملات التجارية الاليكترونية". ويكتفي الشارع بقانون جرائم الكمبيوتر – في أغلب الصور- للتوصل إلى تجريم الأفعال التي قد تنال من المستند الاليكتروني. ومن أمثلة التشريعات التي تبنت هذه الخطة تشريعات الولايات المتحدة الأمريكية والقانون الإنجليزي.
والاتجاه الثاني من التشريعات يذهب إلى إدخال تعديلات على النصوص التشريعية القائمة على نحو يؤدي إلى استيعابها الصور المستحدثة من الجرائم الالكترونية ومن بينها صور الاعتداء على المستند الالكتروني، ثم تفرد هذه الخطة التشريعية قوانين خاصة ببعض الموضوعات مثل الاتصالات والتوقيع الإلكتروني والتي تتضمن نصوصا تتصل بتجريم الاعتداء على المستند الإلكتروني. ومن أمثلة التشريعات بالغة في تنظيم هذا النشاط. ومع تزايد استخدام الحاسب الآلي وتطور تقنياته، ظهرت نماذج جديدة من السلوك الذي يهدد بالإيذاء المصالح التي حماها الشارع، ما أدى إلى تطور التشريع على نحو مواز لها. وقد تمخض هذا التطور عن صدور عدة تعديلات منها قانون إساءة استعمال الكومبيوتر لسنة 1994م. وبالإضافة إلى القوانين سالفة الذكر فقد أصدر الشارع الأمريكي في 30 يونيه سنة 2000م قانونا اتحاديا "للتوقيع الالكتروني العالمي والتجارة الوطنية" أجاز بموجبه قبول واستخدام التوقيع والسجلات الالكترونية في التعاملات التجارية الدولية وبين الولايات. وقد أبقى هذا القانون الاتحادي على كافة التشريعات الصادرة من الولايات للتوقيع والسجلات الالكترونية، غير أنه في حال عدم صدور مثل هذه التشريعات فإن القانون الاتحادي للتوقيع الالكتروني هو الذي يطبق. وهو ما يعنى أن الغطاء التشريعي للمستندات الإلكترونية يمتد إلى كافة الولايات الأمريكية، حتى ولو لم تصدر قانونا خاصا به.  

تنص المادة 197 مكررا (2) من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة على أن «يعاقب بالحبس وبالغرامة كل من استعمل أية وسيلة من وسائل الاتصال أو وسائل تقنية المعلومات أو أية وسيلة أخرى في نشر معلومات أو أخبار أو التحريض على أفعال من شأنها تعريض أمن الدولة للخطر أو المساس بالنظام العام»(). كذلك، يلاحظ أن بعض التشريعات الجنائية المقارنة تنص على الجرائم الالكترونية في صلب قانون العقوبات ذاته. فعلى سبيل المثال، ينص المشرع القطري على «جرائم الحاسب الآلي» في الفصل الخامس من الباب الثالث من الكتاب الثالث من قانون العقوبات(). وتجدر الإشارة هنا إلى أن الباب الثالث من الكتاب الثالث من قانون عقوبات قطر يتعلق بالجرائم الواقعة على الأموال. ويعني ذلك أن المشرع القطري يدرج جرائم الحاسب الآلي تحت جرائم الأموال.

المطلب الأول
الجرائم الالكترونية الماسة بالعقائد والشعائر الدينية

تنص المادة 15 من القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات على أن «يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من ارتكب إحدى الجرائم التالية عن طريق الشبكة المعلوماتية أو إحدى وسائل تقنية المعلومات: - الإساءة إلى أحد المقدسات أو الشعائر الإسلامية؛ - الإساءة إلى أحد المقدسات أو الشعائر المقررة في الأديان الأخرى متى كانت هذه المقدسات والشعائر مصونة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية؛ - سب أحد الأديان السماوية المعترف بها؛ - حسن المعاصي أو حض عليها أو روج لها. وتكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على سبع سنوات إذا تضمنت الجريمة مناهضة للدين الإسلامي أو جرحا للأسس والمبادئ التي يقوم عليها، أو ناهض أو جرح ما علم من الدين الإسلامي بالضرورة، أو نال من الدين الإسلامي، أو بشر بغيره أو دعا إلى مذهب أو فكرة تنطوي على شيء مما تقدم أو حبذ لذلك أو روج لها».

والواقع أن المشرع الإماراتي ينص على الجرائم الماسة بالعقائد والشعائر الدينية في الباب الخامس من الكتاب الثاني من قانون العقوبات الاتحادي (المواد 312 – 326). وبالرجوع إلى نصوص التجريم الواردة في هذا الباب، نجد أنها تتضمن تجريم ذات الأفعال الواردة في المادة 15 من القانون الاتحادي في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ولكن دون تحديد ما إذا كان ذلك قد تم عن طريق الشبكة المعلوماتية أو إحدى وسائل تقنية المعلومات أو بأي طريقة أخرى. بل أن النصوص الواردة في قانون العقوبات الاتحادي قد وردت بشكل أكثر تفصيلا. إذ تنص المادة 312 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب جريمة من الجرائم الآتية: 1- الإساءة إلى أحد المقدسات أو الشعائر الإسلامية. 2- سب أحد الأديان السماوية المعترف بها. 3- تحسين المعصية أو الحض عليها أو الترويج لها أو إتيان أي أمر من شأنه الإغراء على ارتكابها... فإن وقعت إحدى هذه الجرائم علنا كانت العقوبة الحبس الذي لا يقل عن سنة أو الغرامة». وتنص المادة 315 على أن «يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أساء إلى إحدى المقدسات أو الشعائر المقررة في الأديان الأخرى متى كانت هذه المقدسات والشعائر مصونة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية». وتنص المادة 317 على أن «كل من أنشأ أو أسس أو نظم أو أدار جمعية أو هيئة أو منظمة أو فرعا لإحداها تهدف إلى مناهضة أو تجريح الأسس أو التعاليم التي يقوم عليها الدين الإسلامي أو ما علم منه بالضرورة أو إلى التبشير بغير هذا الدين أو تدعو إلى مذهب أو فكرة تنطوي على شئ مما تقدم أو إلى تحبيذ ذلك أو الترويج له، يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات ولا تزيد على عشر سنوات». وتنص المادة 318 على أن «كل من انضم إلى جمعية أو غيرها مما نص عليه في المادة السابقة أو اشترك فيها أو أعانها بأية صورة مع علمه بأغراضها، يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات». وتنص المادة 319 على أن «كل من ناهض أو جرح الأسس أو التعاليم التي يقوم عليها الدين الإسلامي أو ما علم منه بالضرورة أو نال من هذا الدين أو بشر بغيره أو دعا إلى مذهب أو فكرة تنطوي على شئ مما تقدم أو حبذ ذلك أو روج له يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات». وتنص المادة 320 على أن «يحظر عقد أي مؤتمر أو اجتماع في أي مكان بالدولة من أية جماعة أو هيئة أو منظمة إذا كانت هذه الجماعة أو الهيئة أو المنظمة تهدف من هذا الاجتماع سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى مناهضة أو تجريح الأسس أو التعاليم التي يقوم عليها الدين الإسلامي أو ما علم منه بالضرورة أو إلى التبشير بغير هذا الدين. وللسلطة العامة فض مثل هذا المؤتمر أو الاجتماع مع استعمال القوة عند الاقتضاء. ويعاقب كل من شارك في الإعداد لمثل هذا المؤتمر أو الاجتماع أو اشترك فيه بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات ولا تزيد على عشر سنوات». وتنص المادة 321 على أن «إذا وقعت أي من الجرائم المنصوص عليها في المادتين (318، 320) من هذا القانون باستعمال القوة أو التهديد أو كان استعمال القوة أو التهديد ملحوظا في ارتكابها عوقب الجاني بالسجن مدة لا تقل عن سبع سنوات». وتنص المادة 322 على أن «كل من أحرز محررات أو مطبوعات أو تسجيلات تتضمن تحبيذا أو ترويجا لشئ مما نص عليه في المادة (320) وكانت تلك المحررات أو المطبوعات أو التسجيلات معدة للتوزيع أو لإطلاع الغير عليها، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبالغرامة التي لا تقل عن خمسة آلاف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين. ويعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في الفقرة السابقة كل شخص حاز أي وسيلة من وسائل الطبع أو التسجيل أو العلانية تكون قد استعملت لطبع أو تسجيل أو إذاعة نداءات أو أناشيد أو دعاية لمذهب أو جمعية أو هيئة أو منظمة ترمي إلى غرض من الأغراض المنصوص عليها في المادة (320)». وتنص المادة 323 على أن «يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة كل من حصل أو تسلم أموالا بطريق مباشر أو غير مباشر من شخص أو هيئة داخل الدولة أو خارجها متى كان ذلك في سبيل القيام بشئ مما نص عليه في المادة (320)». وتنص المادة 324 على أن «تكون العقوبة على الشروع في الجرائم المنصوص عليها في هذا الفصل في حدود نصف الحدين الأدنى والأقصى للعقوبة المقررة لكل منها». وتنص المادة 325 على أنه «مع عدم الإخلال بالعقوبات المنصوص عليها في المواد السابقة تحكم المحكمة في الأحوال المبينة في المادة (318) بحل الجمعيات أو الهيئات أو التنظيمات أو الفروع المذكورة وإغلاق أمكنتها. ويجوز لها أن تحكم بإغلاق الأمكنة التي وقعت فيها الجرائم المنصوص عليها في المادتين (320، 323). كما تحكم المحكمة في جميع الأحوال المشار إليها في الفقرتين السابقتين بمصادرة النقود والأمتعة وغيرها مما يكون قد استعمل في ارتكاب الجريمة أو أعد لاستعماله فيها أو يكون موجودا في الأمكنة المخصصة لاجتماع هذه الجمعيات أو التنظيمات أو الفروع. وتحكم المحكمة بإبعاد المتهم غير المواطن عن البلاد بعد تنفيذ العقوبة المحكوم بها عليه». وتنص المادة 326 على أن «يعفى من العقوبة كل من بادر من الجناة في إحدى الجرائم المنصوص عليها في المواد (317) إلى (324) بإبلاغ السلطات القضائية أو الإدارية عن الجريمة قبل الكشف عنها فإذا حصل الإبلاغ بعد الكشف عن الجريمة جاز للمحكمة إعفاؤه من العقوبة متى أدى الإبلاغ إلي ضبط باقي الجناة». 

ومن ثم، يثور التساؤل عن العلة التي تقف وراء إفراد نص خاص لأفعال المساس بالعقائد والشعائر الدينية التي ترتكب عن طريق الشبكة المعلوماتية أو إحدى وسائل تقنية المعلومات. فالقاعدة القانونية تقضي بأن كل الوسائل لدى القانون سواء. 

المطلب الثاني
غسل الأموال الالكتروني

حرص المشرع الإماراتي على النص صراحة على جريمة غسل الأموال عن طريق استخدام الشبكة المعلوماتية أو إحدى وسائل تقنية المعلومات. إذ تنص المادة التاسعة عشرة من القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات على أنه «مع مراعاة الأحكام المنصوص عليها في قانون غسل الأموال، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سبع سنوات، وبالغرامة التي لا تقل عن ثلاثين ألفا ولا تزيد على مائتي ألف درهم، كل من قام بتحويل الأموال غير المشروعة أو نقلها أو تمويه المصدر غير المشروع لها أو إخفائه أو قام باستخدام أو اكتساب أو حيازة الأموال مع العلم بأنها مستمدة من مصدر غير مشروع أو بتحويل الموارد أو الممتلكات مع العلم بمصدرها غير المشروع، وذلك عن طريق استخدام الشبكة المعلوماتية أو إحدى وسائل تقنية المعلومات بقصد إضفاء الصفة المشروعة على تلك الأموال أو أنشأ أو نشر معلومات أو موقعا لارتكاب أي من هذه الأفعال».  

المطلب الثالث
التزوير الالكتروني

تنص المادة الرابعة من القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات على أن «يعاقب بالسجن المؤقت كل من زور مستندا من مستندات الحكومة الاتحادية أو المحلية أو الهيئات أو المؤسسات العامة الاتحادية والمحلية معترفا به قانونا في نظام معلوماتي. وتكون العقوبة الحبس والغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين إذا وقع التزوير فيما عدا ذلك من المستندات إذا كان من شأن ذلك إحداث ضرر. ويعاقب بالعقوبة المقررة لجريمة التزوير حسب الأحوال من استعمل المستند المزور مع علمه بتزويره».

وطبقا للمادة 29 من القانون الاتحادي رقم 1 لسنة 2006م في شأن المعاملات والتجارة الالكترونية، «يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على ستة أشهر وبالغرامة التي لا تزيد على مائة ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب فعلا يشكل جريمة بموجب التشريعات النافذة، باستخدام وسيلة الكترونية».

فالقانون يقرر – كقاعدة عامة – مساواة بين الوسائل التي يتصور أن يستعين بها الجاني في ارتكاب الجريمة. ومؤدى ذلك أنه لا يتطلب استعانته بأعضاء جسمه في إتيان الحركة العضوية التي تتطلبها ماديات الجريمة، بل يعدل بذلك استخدامه أداة منفصلة عن جسمه يستزيد بها من إمكانياته على تنفيذها. والقانون بعد ذلك لا يميز بين هذه الأدوات، فهي جميعا عنده سواء: فلا فرق بين أن تكون الأداة جمادا، أو حيوانا يدربه الجاني على إتيان الحركة العضوية المطلوبة، أو أن تكون إنسانا غير أهل للمسئولية الجنائية، أو حسن النية ليس لشخصيته استقلالها ولا لإرادته الإجرامية وجودها. ففي جريمة القتل على سبيل المثال، لا يتطلب القانون أن يخنق الجاني ضحيته بيديه، أو أن يضربه بيديه الضربات المميتة، أو يركله بقدميه بشكل وحشي، وإنما يعتبر الجاني قاتلا إذا ما استعان على تنفيذ جريمته بأداة، سواء أكانت جمادا كحبل يستعمل في الخنق، أو عصا تستعمل في الضرب، أو سلاح ناري، أو كانت حيوانا كوحش يطلقه على الضحية أو ثعبان يتركه في غرفة نومه؛ أو كانت إنسانا غير ذي إرادة جنائية كمجنون يسلمه الجاني المادة المتفجرة ليضعها في مكان إقامة المجني عليه، أو شخصا حسن النية يعطيه الجاني المادة السامة بعد أن يوهمه أنها دواء شاف كي يضعها في طعام المجني عليه. وفي جريمة السرقة، لا يتطلب القانون أن يلتقط الجاني المال المملوك للغير أو أن ينتزعه بيده، بل أنه لا يميز بين هذا الوضع وأوضاع أخرى يستعين فيها الجاني على تنفيذ فعل الاختلاس بأدوات يعدها لذلك؛ ولا فرق في ذلك بين جماد، كخطاف يستعمل في التقاط الشيء، وحيوان كقرد يدرب على نشل الناس، وإنسان ليست له إرادة جنائية، كطفل غير مميز يطلب منه الجاني أن يسلمه المال المملوك لأبيه، أو خادم حسن النية يسأله الجاني أن يسلمه الشيء الذي يملكه مخدومه().   

وبتطبيق المبدأ السابق على الجرائم الالكترونية، يسوغ القول بأن  
الفصل الثالث
مدى ملائمة بعض نصوص التجريم الخاصة

تمهيد وتقسيم:
كما سبق أن قلنا، فإن «جمهور الناس ممن لا يتصلون بالقانون إلا عرضا وبقدر، بل وخاصتهم ممن تدخل دراسة القانون في عملهم، أصبحوا يضيقون بحالة السيولة الزائدة التي تصدر بها القوانين في الكثير من الدول في وقتنا المعاصر، ومن تشعب المواد التي تصدر فيها وما يترتب على ذلك من قيام الصعوبة لدى أولئك وهؤلاء في ملاحقتها والتعرف على أحكامها وما هو نافذ وغير نافذ منها»(). ومع ذلك، فإن المبدأ القانوني المقرر هو «عدم جواز الاعتذار بجهل القانون». والعلة في وجوب التمسك بمبدأ امتناع الاعتذار بجهل القانون هو ارتباطه بالقانون ذاته ولزومه لوجوده لزوم القانون له، وهو فوق هذا صمام الأمان الذي ينضبط بموجبه كل مجتمع يخضع لسيادة القانون وذلك على أساس أن المساواة في معاملة المخاطبين بالقواعد القانونية تستوجب المساواة في العلم بأحكامها وعدم جواز الاعتذار بالجهل بها. وعلى ذلك، فإنه أيا كان الوضع الذي يترتب على التمسك بهذا المبدأ، ومهما بلغت شدة النتائج التي تنجم عنه في بعض الظروف، فإن الإصلاح لا يأتي عن طريق إقامة الاستثناءات عليه والإشادة بوجودها واستساغة ورودها بما قد يؤدي إلى إهدار المبدأ في ذاته، وإنما الطريق إلى الإصلاح هو التشريع ذاته باعتباره المصدر الأول للقواعد القانونية، وذلك بالتخفف من تعاقبه على الموضوع الواحد وعدم تشتيته والعمل على تجميعه وتثبيت الفكر بشأنه بما يقيم أسباب العلم لدى المخاطبين به جميعا(). وإذا كان هذا الرأي ينطبق على جميع فروع القانون، فهو أكثر انطباقا على القانون الجنائي. إذ يشهد العصر الحالي زيادة تدخل المشرع الجنائي لمواجهة الظواهر الإجرامية المستحدثة، وتشعب النصوص الجنائية على العديد من التشريعات، بحيث لا يكفي مجرد العلم بقانون العقوبات، وإنما ينبغي كذلك العلم بالعديد من القوانين الجنائية الخاصة المنطوية على تجريم العديد من الأفعال. 

وهكذا، يثور التساؤل في بعض الأحيان عن العلة من وراء النص على بعض الجرائم في القوانين العقابية الخاصة، على الرغم من أن الأفعال المكونة لها تقع تحت طائلة التجريم بمقتضى قانون العقوبات العام. كما يثور التساؤل عما إذا كان التشديد أو التخفيف في العقوبة مقصودا من جانب المشرع، والعلة التي تقف وراء هذا التشديد أو التخفيف. والهدف من إثارة هذه التساؤلات هو محاولة التخفيف من تعاقب التشريع على الموضوع الواحد، وعدم تشتيته، والعمل على تجميعه، وتثبيت الفكر بشأنه، بما يقيم أسباب العلم لدى المخاطبين به جميعا. 

المبحث الأول
تزوير بعض المحررات الرسمية

تنص المادة 217 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «يعاقب على التزوير في محرر رسمي بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات ويعاقب على التزوير في محرر غير رسمي بالحبس. وذلك كله ما لم ينص على غيره».

وقد كانت المادة 34 من القانون الاتحادي رقم 6 لسنة 1973م في شأن دخول وإقامة الأجانب تنص على أن «كل من زور تأشيرة أو إذن دخول للبلاد أو تصريح أو بطاقة للإقامة فيها أو أي مستند بقصد التهرب من أحكام هذا القانون أو استعمل أي سند مزور منها مع علمه بتزويره يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز ثلاث سنوات وبغرامة لا تجاوز عشرة آلاف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين وعلى المحكمة أن تأمر بإبعاد الأجنبي من البلاد». وقد تم تعديل هذه المادة بمقتضى القانون الاتحادي رقم 13 لسنة 1996م، بحيث أصبح نصها يجري على النحو التالي: «يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات كل من زور تأشيرة أو إذن دخول للبلاد أو تصريحا أو بطاقة للإقامة فيها أو أي محرر رسمي تصدر بناء عليها هذه التأشيرات أو الأذون أو التصاريح وذلك بقصد التهرب من أحكام هذا القانون. ويعاقب بذات العقوبة كل من استعمل أي مستند مزور من المستندات المشار إليها في هذه المادة مع علمه بتزويره. وعلى المحكمة أن تأمر بإبعاد الأجنبي من البلاد».

وتنص المادة 28 من القانون الاتحادي رقم 6 لسنة 1975م في شأن تنظيم قيد المواليد والوفيات على أنه «مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز شهر وبغرامة لا تجاوز (500) خمسمائة درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين: ... ج) كل من تعمد تقديم بيانات غير صحيحة أو التجأ إلى طرق احتيالية أو وسائل غير مشروعة بقصد قيد مولود أو متوفى بالسجلات وعلى المحكمة أن تحكم بشطب القيد الذي يثبت عدم صحته. د) كل من يحدث تغيير في البيانات الواردة في سجلات قيد المواليد أو الوفيات بدون صدور قرار بذلك من اللجنة المنصوص عليها في المادة (26) من هذا القانون أو حكم نهائي من المحكمة المختصة...».    

وبالإضافة إلى الصور المخففة للتزوير التي ورد النص عليها في قانون العقوبات المصري، ورد النص على صور أخرى مخففة للتزوير في بعض القوانين الجنائية الخاصة. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 30 من القانون رقم 141 لسنة 1944م بشأن حجر المصابين بأمراض عقلية على أن «». وتنص المادة 66 من القانون رقم 505 لسنة 1955م في شأن التجنيد على أن «». وتنص المادة 59 من القانون رقم 260 لسنة 1960م في شأن الأحوال المدنية على أن «». وتنص المادة 94 من قانون الزراعة المصري رقم 53 لسنة 1966م على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على شهر وبغرامة لا تقل عن خمسة جنيهات ولا تزيد على ثلاثين جنيها: (أ) كل من دون بيانات غير صحيحة في السجلات المنصوص عليها في المادة 91 مع علمه بذلك. (ب) كل من أثبت أو اعتمد بيانات مخالفة للحقيقة في نماذج الحيازة المنصوص عليها في المادة 92 مع علمه بذلك...».

المبحث الثاني
ارتكاب فعل مخالف للآداب في مركبة

تنص المادة 358 من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر من أتى علنا فعلا فاضحا مخلا بالحياء. ويعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة من ارتكب فعلا مخلا بالحياء مع أنثى أو صبي لم يتم الخامسة عشرة ولو في غير علانية». وفي القانون المصري، تنص المادة 278 من قانون العقوبات على أن «كل من فعل علانية فعلا فاضحا مخلا بالحياء يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو غرامة لا تتجاوز ثلاثمائة جنيه». وتضيف المادة 279 من ذات القانون أن «يعاقب بالعقوبة السابقة كل من ارتكب مع امرأة أمرا مخلا بالحياء ولو في غير علانية».

ومع ذلك، لم يكتف المشرع المصري بالتجريم العام الوارد في قانون العقوبات للفعل الفاضح، وإنما تنص المادة 72 من قانون المرور المصري الجديد على أن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثمائة جنية ولا تزيد على ألف خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين من يرتكب فعلا مخالفا للآداب في مركبة. ويرى بعض الفقه() – بحق – أن جريمة الفعل الفاضح لا علاقة لها بالمرور من قريب أو بعيد. إذ الهدف من تجريم الفعل الفاضح هو حماية الشعور العام بالحياء والقيم الأخلاقية في المجتمع، وليس حماية حرمة المركبة ! وهي جريمة معاقب عليها في قانون العقوبات بعقوبة أشد، ولا يسوغ الاعتقاد بأن يكون الهدف من القانون هو تخفيف العقوبة في حالة ارتكاب الفعل الفاضح في مركبة. حيث يعاقب قانون العقوبات مرتكب الفعل الفاضح بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تتجاوز ثلاثمائة جنيه مصري أو أحدهما، يستوي في ذلك أن يقع الفعل في الطريق العام أو المنتزهات أو وسائل المواصلات المختلفة. 

المبحث الثالث
إفشاء الأسرار


§1. القانون المصري
تنص المادة 310 من قانون العقوبات المصري على أن «كل من كان من الأطباء أو الجراحين أو الصيادلة أو القوابل أو غيرهم مودعا إليه بمقتضى صناعته أو وظيفته سر خصوصي أؤتمن عليه فأفشاه في غير الأحوال التي يلزمه القانون فيها بتبليغ ذلك يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة شهور أو بغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيها مصريا. ولا تسري أحكام هذه المادة إلا في الأحوال التي لم يرخص فيها قانون بإفشاء أمور معينة كالمقرر في المواد 202 و203 و204 و205 من قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية».

§2. القانون الإماراتي
تنص المادة 379 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبالغرامة التي لا تقل عن عشرين ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين من كان بحكم مهنته أو حرفته أو وضعه أو فنه مستودع سر فأفشاه في غير الأحوال المصرح بها قانونا أو استعمله لمنفعته الخاصة أو لمنفعة شخص آخر، وذلك ما لم يأذن صاحب الشأن في السر بإفشائه أو استعماله. وتكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على خمس سنين إذا كان الجاني موظفا عاما أو مكلفا بخدمة عامة واستودع السر أثناء أو بسبب أو بمناسبة تأدية وظيفته أو خدمته».

ومع ذلك، لم تكتف بعض القوانين الجنائية الخاصة بالنص الوارد في قانون العقوبات الاتحادي بشأن جريمة إفشاء الأسرار، وإنما يفرد نصا خاصا لإفشاء الأسرار. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 181 البند الثالث من القانون الاتحادي رقم (8) لسنة 1980م بشأن تنظيم علاقات العمل في دولة الإمارات العربية المتحدة على أن «مع عدم الإخلال بأية عقوبات أشد ينص عليها قانون آخر يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف درهم ولا تزيد على عشرة آلاف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين: 1- كل من خالف أي نص آمر من نصوص هذا القانون أو اللوائح أو القرارات المنفذة له. 2- كل من عرقل أو منع أحد الموظفين المكلفين بتنفيذ أحكام هذا القانون أو اللوائح أو القرارات المنفذة له أو حاول أو شرع في منعه من أداء وظيفته سواء باستعمال القوة أو العنف أو بالتهديد باستعمالها. 3- كل موظف مكلف بتنفيذ أحكام هذا القانون أفشى سرا من أسرار العمل أو أي اختراع صناعي أو غير ذلك من أساليب العمل يكون قد أطلع عليه بحكم وظيفته ولو كان قد ترك العمل».

المبحث الرابع
التعدي على الموظفين

تنص المادة 248 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «يعاقب بالحبس أو الغرامة كل من استعمل القوة أو العنف أو التهديد مع موظف عام أو مكلف بخدمة عامة بنية حمله بغير حق على أداء عمل من أعمال وظيفته أو على الامتناع عنه ولم يبلغ بذلك مقصده، فإذا بلغ مقصده تكون العقوبة بالحبس مدة لا تقل عن سنة. وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر إذا وقعت الجريمة مع سبق الإصرار أو من أكثر من شخص يحمل سلاحا ظاهرا أو إذا صاحب الجريمة ضرب». وتنص المادة 249 من ذات القانون على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين أو بغرامة لا تجاوز عشرين ألف درهم من تعدى على موظف عام أو مكلف بخدمة عامة أو قاومه بالقوة أو بالعنف، وذلك أثناء أو بسبب تأدية وظيفته أو خدمته، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر إذا حصل مع التعدي أو المقاومة ضرب. ويعد ظرفا مشددا وقوع إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذه المادة مع سبق الإصرار أو من أكثر من شخص أو من شخص يحمل سلاحا ظاهرا».

تنص المادة 18 من المرسوم بقانون اتحادي رقم 1 لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أن «يعاقب بالسجن المؤقت كل من تعدى على أحد القائمين على تنفيذ أحكام هذا المرسوم بقانون أثناء تأديته لواجباته أو بسببها أو قاومه بالقوة أو العنف أو بالتهديد باستخدامها. وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا نشأ عن التعدي أو المقاومة عاهة مستديمة، أو كان الجاني يحمل سلاحا، أو قام بخطف أو احتجاز أي من القائمين على تنفيذ أحكام هذا المرسوم بقانون أو زوجه أو أحد أصوله أو فروعه. وتكون العقوبة الإعدام إذا نتج عن التعدي أو المقاومة أو الخطف أو الاحتجاز موت شخص».

وتنص المادة السادسة من القانون الاتحادي رقم 51 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم الاتجار بالبشر على أن «يعاقب بالسجن المؤقت الذي لا تقل مدته عن خمس سنوات كل من تعدى على أحد القائمين على تنفيذ هذا القانون أثناء أو بسبب تأديته لواجباته أو قاومه بالقوة أو بالتهديد باستعمالها».

وتنص المادة 52 من القانون الاتحادي رقم 14 لسنة 1995م في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية على أن «يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على خمس سنوات والغرامة التي لا تقل عن عشرين ألف درهم ولا تزيد على مائة ألف درهم كل من تعدى على أحد الموظفين القائمين على تنفيذ هذا القانون أو قاومه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها. فإذا حصل مع التعدي أو المقاومة ضرب أو جرح كانت العقوبة السجن مدة لا تقل عن خمس سنوات ولا تزيد على عشر سنوات والغرامة التي لا تقل عن عشرين ألف درهم ولا تزيد على مائة ألف درهم. وتكون العقوبة السجن المؤبد أو السجن الذي لا تقل مدته عن عشر سنوات والغرامة التي لا تقل عن عشرين ألف درهم ولا تزيد على مائة ألف درهم إذا نشأ عن الضرب أو الجرح عاهة مستديمة يستحيل برؤها أو إذا كان الجاني وقت ارتكاب الجريمة يحمل سلاحا أو من رجال السلطة المنوطة بهم المحافظة على الأمن. وإذا أفضى الضرب أو الجرح إلى الموت كانت العقوبة الإعدام». وتنص المادة 53 من ذات القانون على أن «يعاقب بالإعدام كل من قتل عمدا أحد الموظفين العموميين القائمين على تنفيذ هذا القانون في أثناء تأدية وظيفته أو بسببها». وتنص المادة (54) على أن «لا يخل توقيع العقوبات التعزيرية المبينة في المواد (45) و(52) و(53) بما يترتب لأصحاب الشأن من الحق في الدية».

والواقع أن الموظفين القائمين على تنفيذ بعض القوانين يتعرضون لخطر انتقام بعض المجرمين أو الجماعات والعصابات الإجرامية. ويصدق ذلك بوجه خاص على الجريمة المنظمة التي تشكل بحكم طبيعتها الخاصة خطرا كبيرا على كافة الأشخاص الذين يتصلون بالدعوى الجنائية الناشئة عنها، سواء في ذلك القضاة أو أعضاء النيابة أو مأموري الضبط، وغيرهم من الموظفين القائمين على إنفاذ القانون(). وللتدليل على مدى الخطورة التي يمكن أن يتعرض لها هؤلاء الموظفين، يكفي أن نشير إلى قيام جماعات المافيا الإيطالية بقتل القاضي (Giovanni Falcone) في مايو سنة 1992م والقاضي (Paolo Borsellino) في يوليو من ذات العام. وقد ترتب على هاتين الجريمتين وفاة عدة أشخاص آخرين بسبب استخدام المافيا للمتفجرات في تنفيذهما(). ولعل ذلك يظهر مدى الحاجة إلى توفير الحماية لأعضاء المحكمة التي تفصل في بعض الجرائم وغيرهم من الموظفين الذين يتصلون بالدعوى الناشئة عن هذه الجرائم بحكم مهنتهم كأعضاء النيابة ورجال الشرطة وسائر الموظفين القائمين على إنفاذ القوانين ذات الصلة بهذه الجرائم.

وتجد هذه الحماية الخاصة سندها في حق المجتمع في حسن سير العدالة، إلى جانب ضرورة الحفاظ على هيبة الدولة()

المبحث الخامس
إخفاء الفارين من وجه العدالة

تنص المادة 286 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «من أخفى أو آوى بنفسه أو بوساطة غيره شخصا فر بعد القبض عليه أو متهما في جريمة أو صادرا في حقه أمر بالقبض عليه، وكذلك كل من أعانه بأية طريقة كانت على الفرار من وجه العدالة مع علمه بذلك يعاقب طبقا للأحكام الآتية: - إذا كان من أخفى أو سوعد بالإيواء أو أعين على الفرار من وجه العدالة محكوما عليه بالإعدام كانت العقوبة السجن مدة لا تزيد على سبع سنوات فإذا كان محكوما عليه بالسجن المؤبد أو المؤقت أو كان متهما في جريمة عقوبتها الإعدام، كانت العقوبة السجن مدة لا تزيد على خمس سنوات. وفي الأحوال الأخرى تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر. – وإذا وقعت الجريمة من شخصن فأكثر بالتهديد أو بالعنف على الأشخاص أو الأشياء أو باستعمال السلاح أو بالتهديد باستعماله عد ذلك ظرفا مشددا».

تنص المادة الخامسة من القانون الاتحادي رقم 51 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم الاتجار بالبشر على أن «يعاقب بالسجن المؤقت كل من... أخفى شخصا أو أكثر من الذين اشتركوا فيها (أي في الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون) بقصد معاونته على الفرار من وجه العدالة مع علمه بذلك،...».

المبحث السادس
حيازة أو إخفاء الأشياء المتحصلة من جريمة

تنص المادة 407 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «من حاز أو أخفى أشياء متحصلة من جريمة مع علمه بذلك ودون أن يكون قد اشترك في ارتكابها يعاقب بالعقوبة المقررة للجريمة التي يعلم أنها قد تحصلت منها. وإذا كان الجاني لا يعلم أن الأشياء تحصلت من جريمة ولكنه حصل عليها في ظروف تحمل على الاعتقاد بعدم مشروعية مصدرها تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر والغرامة التي لا تجاوز خمسة آلاف درهم أو إحدى هاتين العقوبتين». وتضيف المادة 408 من ذات القانون أنه «يعفى الجاني في حكم المادة السابقة من العقوبة إذا بادر إلى إبلاغ السلطات القضائية أو الإدارية بالجريمة التي تحصلت الأشياء منها وبمرتكبيها قبل الكشف عنها. فإذا حصل الإبلاغ بعد الكشف عن الجريمة جاز للمحكمة إعفاؤه من العقوبة متى أدى الإبلاغ إلى ضبط الجناة».

تنص المادة الخامسة من القانون الاتحادي رقم 51 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم الاتجار بالبشر على أن «يعاقب بالسجن المؤقت كل من حاز أو أخفى أو قام بتصريف أشياء متحصلة من إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون...، أو ساهم في إخفاء معالم الجريمة».

المبحث السابع
الامتناع عن التبليغ عن الجرائم

ورد النص على «الامتناع عن التبليغ عن الجرائم» في الفصل الرابع من الباب الثالث من الكتاب الثاني من قانون العقوبات الاتحادي رقم 3 لسنة 1987م. إذ تنص المادة 272 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «يعاقب بالحبس أو بالغرامة كل موظف عام مكلف بالبحث عن الجرائم أو ضبطها أهمل أو أرجأ الإخبار عن جريمة اتصلت بعلمه. ويعاقب بالغرامة كل موظف غير مكلف بالبحث عن الجرائم أو ضبطها أهمل أو أرجأ إبلاغ السلطة المختصة بجريمة علم بها في أثناء أو بسبب تأديته وظيفته. ولا عقاب إذا كان رفع الدعوى في الحالتين المنصوص عليهما في الفقرتين السابقتين معلقا على شكوى. ويجوز الإعفاء من العقوبة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من هذه المادة إذا كان الموظف زوجا لمرتكب الجريمة أو من أصوله أو فروعه أو اخوته أو أخواته أو ممن هم في منزلة هؤلاء من الأقرباء بحكم المصاهرة». وتنص المادة 273 من ذات القانون على أن «يعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن سنة وبالغرامة التي لا تقل عن عشرين ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من قام في أثناء مزاولته مهنة طبية أو صحية بالكشف على شخص متوفى أو بإسعاف مصاب إصابة جسيمة وجدت به علامات تشير إلى أن وفاته أو إصابته من جريمة أو إذا توافرت ظروف أخرى تدعو إلى الاشتباه في سبب الوفاة أو الإصابة ولم يبلغ السلطات بذلك». وتنص المادة 274 من ذات القانون على أن «يعاقب بغرامة لا تجاوز ألف درهم كل من علم بوقوع جريمة وامتنع عن إبلاغ ذلك إلى السلطات المختصة. ويجوز الإعفاء من هذه العقوبة إذا كان من امتنع عن الإبلاغ زوجا لمرتكب الجريمة أو من أصوله أو فروعه أو اخوته أو أخواته أو من هم في منزلة هؤلاء من الأقرباء بحكم المصاهرة».

وتنص المادة 182 مكررا (2) من قانون العقوبات الاتحادي – مضافة بموجب القانون الاتحادي رقم 34 لسنة 2005م – على أن «يعاقب بالحبس كل من علم بارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في الفصلين الأول والثاني من هذا الباب ولم يبادر بإبلاغ السلطات المختصة ويجوز للمحكمة أن تعفي من العقوبة أقارب الجاني وأصهاره إلى الدرجة الرابعة». وتنص المادة 196 مكررا (2) من قانون العقوبات الاتحادي – مضافة بموجب القانون الاتحادي رقم 34 لسنة 2005م – على أن «يعاقب بالحبس كل من علم بوجود مشروع لإرتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المواد المشار إليها في المادة (191) من هذا القانون ولم يبلغه للسلطات المختصة. ويعفى من هذه العقوبة إذا كان من إمتنع عن الإبلاغ زوجا للجاني أو من أصوله أو من فروعه حتى الدرجة الرابعة».     

تنص المادة الثالثة من القانون الاتحادي رقم 51 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم الاتجار بالبشر على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات والغرامة التي لا تقل عن خمسة آلاف درهم ولا تزيد على عشرين ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من علم بوجود مشروع لارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون ولم يبلغه إلى السلطات المختصة. ويجوز الإعفاء من هذه العقوبة إذا كان من امتنع عن الإبلاغ زوجا للجاني أو من أصوله أو فروعه أو إخوته أو أخواته».

المبحث الثامن
الحمل على الشهادة الزور

تنص المادة الرابعة من القانون الاتحادي رقم 51 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم الاتجار بالبشر على أن «يعاقب بالسجن المؤقت الذي لا تقل مدته عن خمس سنوات كل من استعمل القوة أو التهديد، أو عرض عطية أو مزية من أي نوع أو وعد بشئ من ذلك لحمل شخص آخر على الإدلاء بشهادة زور أو كتمان أمر من الأمور أو الإدلاء بأقوال أو معلومات غير صحيحة أمام أية جهة قضائية في إجراءات تتعلق بارتكاب أية جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون».

تنص المادة 259 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «مع عدم الإخلال بحكم المادة (243) يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبالغرامة التي لا تجاوز خمسة آلاف درهم كل من استعمل التعذيب أو القوة أو التهديد، أو عرض عطية أو مزية من أي نوع أو وعدا بشئ من ذلك لحمل آخر على كتمان أمر من الأمور أو الإدلاء بأقوال أو معلومات غير صحيحة أمام أية جهة قضائية».

المبحث التاسع
جريمة التعريض للخطر

تنص المادة 348 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين من ارتكب عمدا فعلا من شأنه  تعريض حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم أو حرياتهم للخطر. وتكون العقوبة الحبس إذا ترتب على الفعل حدوث ضرر أيا كان مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد يقررها القانون». وبمقتضى هذا النص، يعاقب المشرع الجنائي على أفعال التعريض للخطر. ويقوم النموذج الإجرامي لهذه الجريمة على ركنين: الأول، فعل من شأنه تعريض حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم أو حرياتهم للخطر، وهذا هو الركن المادي. والثاني، القصد الجنائي، وهذا هو الركن المعنوي.

ويتمثل الركن المادي في إتيان الجاني فعلا من شأنه تعريض حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم أو حرياتهم للخطر. ولا يشترط أن يترتب على هذا الفعل حدوث ضرر بالفعل، بل يكفي مجرد قيام الجاني بالفعل المؤثم. ولم يحدد المشرع في نص المادة 348 ماهية الفعل المؤثم، وإنما استلزم فقط أن يكون من شأنه تعريض حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم أو حرياتهم للخطر. ولعل أبرز مثال على ذلك أن يقود شخص سيارة بسرعة جنونية في الشارع مما يعرض حياة المارة للخطر، أو أن يقود حافلة بها ركاب بسرعة كبيرة يخشى معها الاصطدام أو انقلاب الحافلة مما يعرض حياة هؤلاء الركاب للخطر. 

أما الركن المعنوي، فيأخذ صورة القصد الجنائي. ويعني ذلك أن هذه الجريمة لا تقوم إلا على سبيل العمد. ويقوم القصد الجنائي على عنصرين، هما: العلم والإرادة. فيتعين أن تتوافر لدى الجاني إرادة القيام بالفعل عمدا، مع علمه أن من شأن هذا الفعل تعريض حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم أو حرياتهم على الخطر.

ومع ذلك، ورغم انطباق النموذج الإجرامي لجريمة التعريض الخطر على كل فعل يكون من شأنه تعريض حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم أو حرياتهم للخطر، فإن قانون السير والمرور ينص على تجريم بعض سلوكيات قائدي المركبات التي ينطبق عليها وصف «التعريض للخطر». بيان ذلك، أن المادة 49 من القانون الاتحادي رقم 21 لسنة 1995م في شأن السير والمرور – معدلة بموجب القانون الاتحادي رقم 12 لسنة 2007م – تنص على أن «يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب أيا من الأفعال الآتية:... 6- قيادة مركبة أو الشروع في قيادتها على الطريق وهو تحت تأثير المشروبات الكحولية أو المواد المخدرة وما في حكمها».

المبحث العاشر
جريمة الإزعاج الهاتفي

تنص المادة 298 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة التي لا تجاوز عشرة آلاف درهم كل من تسبب عمدا في إزعاج غيره باستعمال أجهزة المواصلات السلكية واللاسلكية».

وتنص المادة 46 من القانون الاتحادي رقم (1) لسنة 1991م في شأن مؤسسة الإمارات للاتصالات على أن «يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد عن ستة أشهر أو بالغرامة التي لا تزيد عن عشرة آلاف درهم:... ب- كل من يستغل الأجهزة أو الخدمات أو التسهيلات التي تقدمها المؤسسة في الإساءة أو الإزعاج أو إيذاء مشاعر الآخرين أو أي غرض آخر غير مشروع».

وتنص المادة 72 من المرسوم بقانون اتحادي رقم (3) لسنة 2003م في شأن تنظيم قطاع الاتصالات على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف درهم ولا تتجاوز مائتي ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين: ... 2- كل من استغل أجهزة أو خدمات الاتصالات في الإساءة أو الإزعاج أو إيذاء مشاعر الآخرين أو لغرض آخر غير مشروع...»().

المبحث الحادي عشر
جرائم الشيك بدون رصيد

بتاريخ 17 مايو سنة 1999م، صدر قانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999م، منظما أحكام الشيك في الفصل الثالث من الباب الرابع تحت عنوان «الأوراق التجارية». ويضم هذا الفصل المادة 534، والتي تنص – في البند الأول منها - على أن «1يعاقب بالحبس وبغرامة لا تجاوز خمسين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب عمدا أحد الأفعال التالية: أ-  إصدار شيك ليس له مقابل وفاء قابل للصرف. ب- استرداد كل الرصيد أو بعضه أو التصرف فيه بعد إصدار الشيك، بحيث يصبح الباقي لا يفي بقيمة الشيك. ج- إصدار أمر للمسحوب عليه بعدم صرف الشيك في غير الحالات المقررة قانوناً. د- تحرير شيك أو التوقيع عليه بسوء نية على نحو يحول دون صرفه». وفي البند الثاني من ذات المادة، يعاقب المشرع «بالعقوبة المنصوص عليها في الفقرة السابقة كل من ظهر لغيره شيكاً تظهيراً ناقلاً للملكية مستحق الدفع لحامله مع علمه بأنه ليس له مقابل وفاء يفي بكامل قيمته أو أنه غير قابل للصرف». وفي البند الرابع من ذات المادة، يخول المشرع «للمجني عليه، ولوكيله الخاص، في الجرائم المنصوص عليها في هذه المادة، أن يطلب من النيابة العامة أو المحكمة بحسب الأحوال، وفي أية حالة تكون عليها الدعوى إثبات صلحه مع المتهم. ويترتب على هذا الصلح انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت مرفوعة بطريق الادعاء المباشر، وتأمر النيابة العامة بوقف تنفيذ العقوبة، وإذا تم الصلح أثناء تنفيذها، ولو بعد صيرورة الحكم باتاً».


الفصل الرابع
مدى صواب أسلوب الإحالة في التجريم والعقاب

تمهيد وتقسيم:
بالتمعن في نصوص التجريم والعقاب الواردة في قانون العقوبات، نجدها تشتمل في الأغلب الأعم من الأحوال على شقين، هما: النموذج القانوني للجريمة، والعقوبة الجنائية المقررة لها. ويأتي ذلك غالبا في شكل صيغة الشرط، بحيث ينطوي النص التشريعي على  فعل الشرط، أي النموذج القانوني للجريمة، وجواب الشرط، أي العقوبة الجنائية المقررة لمرتكبها. ورغبة في تحقيق أكبر قدر من الردع العام، وزجر المخاطبين عن إتيان السلوك الإجرامي، يحرص المشرع الجنائي – في الأغلب الأعم من الأحوال – على أن يأتي بيان العقوبة في صدر النص التجريمي، متبعا ذلك ببيان الفعل أو السلوك غير المشروع. 

ولكن الملاحظ في القوانين الجنائية الخاصة أن المشرع يتبع غالبا في التجريم أسلوبا مغايرا. إذ يستخدم المشرع في هذه القوانين أسلوب الإحالة في التجريم والعقاب. وسنتناول فيما يلي صور الإحالة الواردة في القوانين الجنائية الخاصة، ثم نردف ذلك بتقييم أسلوب الإحالة في التجريم والعقاب، وذلك في مبحثين، على النحو التالي: 

المبحث الأول
صور الإحالة في التجريم والعقاب

تمهيد وتقسيم:
كما سبق أن قلنا، تتسم التشريعات الجنائية الخاصة – في الغالب – بانتهاج أسلوب الإحالة في التجريم والعقاب. ويتحقق ذلك في الأغلب الأعم من الأحوال في التشريعات المنظمة لموضوع ما والتي تتضمن في ذات الوقت اللجوء إلى الجزاء الجنائي كوسيلة لضمان احترام أحكامه، كما هو الشأن في قانون العمل وقانون الشركات التجارية. 

وتتعدد الصور التي يلجأ إليها المشرع في الإحالة. ويبدو من الملائم في هذا الصدد أن نميز بين طائفتين من صور الإحالة؛ الأولى، تشمل صور الإحالة إلى مواد في ذات القانون. أما الثانية، فتشمل صور الإحالة إلى مواد في قانون آخر. وسنتناول هاتين الطائفتين تباعا، وذلك في مطلبين، على النحو التالي: 

المطلب الأول
صور الإحالة إلى مواد في ذات القانون

قد يقوم المشرع – عبر أبواب القانون الجنائي الخاص المختلفة ومواده العديدة - بتحديد الالتزامات التي لا يجوز مخالفتها، ثم يأتي في نص منفصل يحدد العقوبة الجنائية واجبة التطبيق. وقد يقتضي تحديد مفهوم الجريمة اللجوء إلى نص آخر(). فعلى سبيل المثال، 

وقد يصل الأمر إلى مدى أبعد من ذلك. فقد يستخدم المشرع الإحالة فيما بين الجنحة والمخالفة، بمعنى أن الجريمة التي تعد من قبيل الجنح قد تتوافر في حالة مخالفة نص لائحي(). فعلى سبيل المثال،

وبالإضافة إلى ما سبق، قد لا يكتفي المشرع الجنائي الخاص باستخدام أسلوب الإحالة في التجريم والعقاب، وإنما قد يلجأ كذلك إلى ما يمكن أن نطلق عليه اصطلاح «التجريم التحوطي». بحيث يقترن استخدام أسلوب الإحالة باستخدام أسلوب التجريم التحوطي. ولا يقتصر الاقتران على وجودهما معا في ذات القانون، وإنما ينطبق النص التحوطي على مخالفة بعض الأحكام الواردة في نصوص أخرى. ويعني ذلك أن الإحالة قد تأتي في شكل نص احتياطي.

المطلب الثاني
صور الإحالة إلى مواد في قانون آخر

استخدام أسلوب الإحالة في التجريم والعقاب لا يقتصر على الإحالة إلى مواد في ذات القانون، وإنما قد تكون الإحالة إلى نص وارد في قانون آخر. وقد يكون القانون المحال إليه هو قانون العقوبات ذاته. فعلى سبيل المثال، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة 27 من المرسوم بقانون اتحادي رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أن «يعاقب بالسجن المؤقت لمدة لا تزيد على خمس سنوات كل من ارتكب تنفيذا لغرض إرهابي إحدى الجرائم المنصوص عليها في الفقرة الأولى من كل من المادتين (190)، (290) والمادة (296) والفقرتين الأولى والثانية من المادة (339) والمادة (348) من قانون العقوبات». وتضيف الفقرة الثانية من ذات المادة أن «يعاقب بالسجن المؤبد أو المؤقت كل من ارتكب تنفيذا لغرض إرهابي إحدى الجرائم المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة (189) والفقرة الثانية من كل من المادتين (190) و(193) والمادة (195) والفقرة الأولى من المادة (196) والمادتين (202) و(301) والفقرة الأولى من المادة (297) والمواد (301) و(302) و(304) و(336) و(337) و(338) من قانون العقوبات». ووفقا للفقرة الثالثة من ذات المادة «يعاقب بالسجن المؤبد كل من ارتكب تنفيذا لغرض إرهابي إحدى الجرائم المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة (193) والفقرة الثانية من كل من المادتين (196) و(290) والمادة (299) من قانون العقوبات». وتعاقب الفقرة الرابعة من ذات المادة بالإعدام «كل من ارتكب تنفيذا لغرض إرهابي الجريمة المنصوص عليها في المادة (332) من قانون العقوبات».

وقد يكون القانون المحال إليه قانونا جنائيا خاصا آخر. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 89 الفقرة الأولى من قانون البيئة المصري رقم 4 لسنة 1994م على أن «يعاقب بغرامة لا تقل عن مائتي جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه كل من خالف أحكام المواد 2 و3 فقرة أخيرة و4 و5 و7 من القانون رقم 48 لسنة 1982م في شأن حماية نهر النيل والمجاري المائية من التلوث والقرارات المنفذة له». ومن ثم، وللوقوف على النموذج القانوني للجريمة الواردة بهذا النص، لا يكفي مجرد الإطلاع على أحكام قانون البيئة، وإنما يلزم كذلك الرجوع إلى الأحكام المشار إليها في هذا النص والتي ورد النص عليها في القانون المتعلق بحماية نهر النيل والمجاري المائية من التلوث.

وقد يتبع المشرع أسلوبا أكثر غرابة في الإحالة، يمكن أن نطلق عليه اصطلاح «الإحالة المزدوجة». بيان ذلك أن المشرع قد يقرر في إحدى مواد القانون مبدأ العقاب على مخالفة أحكام مادة أخرى، ويحيل في شأن تحديد العقوبة إلى قانون آخر. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 82 الفقرة الثانية من القانون المصري رقم 127 لسنة 1955م في شأن مزاولة مهنة الصيدلة على أن «كل مخالفة لأحكام المادة 76 يعاقب مرتكبها بالعقوبات المنصوص عليها في القانون رقم 163 لسنة 1950 المشار إليه».

المبحث الثاني
تقييم أسلوب الإحالة في التجريم والعقاب

يؤكد بعض الفقه() أن استخدام أسلوب الإحالة في التجريم والعقاب هو إحدى السمات الذاتية للقوانين الجنائية الخاصة، والتي تميزها عن القواعد العامة المنصوص عليها في القانون الجنائي بصفة عامة.   

والواقع أن هذا الأسلوب غير مقبول من ناحية الفن القانوني المجرد. بالإضافة إلى ذلك، يتعارض هذا المنهج مع مقتضيات مبدأ الشرعية. بيان ذلك أن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات يستلزم وضوح نصوص التجريم والعقاب. 

ولتحقيق مقتضيات الوضوح للنص التجريمي، يغدو من الضروري أن يكون النص التشريعي كاملا، مبينا الفعل الإجرامي والعقوبة الواجبة التطبيق. وبعبارة أخرى، ينبغي أن تكون الواقعة محددة تحديدا دقيقا، وأن يتضمن ذات النص المتضمن للنموذج الإجرامي العقوبة المقررة للسلوك المجرم(). وفي ذلك، تقول محكمة النقض المصرية بأن «الأصل كي يحقق النص التشريعي العلة من وضعه أن يكون كاملا مبينا الفعل الإجرامي والعقوبة الواجبة التطبيق، إلا أنه لا حرج إن نص القانون على الفعل بصورة مجملة ثم حدد العقوبة تاركا للائحة أو قرار البيان التفصيلي لذلك الفعل»().

ويتعين أن تصاغ نصوص التجريم والعقاب، سواء وردت في التقنين العقابي أو صدرت بها تشريعات خاصة، على نحو يحترم فيه الدستور، بوصفه أسمى القوانين على الإطلاق. وعلى ذلك، تتعرض نصوص التجريم والعقاب لخطر الحكم بعدم دستوريتها إذا تصادمت مع مبدأ يقرر الدستور، كمبدأ لا جريمة ولا عقوبة بغير نص().
    









ليست هناك تعليقات