القوانين الجنائية الخاصة النظرية العامة دكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي المساعد كلية الحقوق - جامعة القاهرة 2
الباب الثاني
الأحكام العامة للقوانين الجنائية الخاصة
تمهيد وتقسيم:
الفصل الأول
العلاقة بين القوانين الجنائية الخاصة وقانون العقوبات
تمهيد وتقسيم:
تنتظم قوانين العقوبات مجموعتين متميزتين من النصوص: المجموعة الأولى يطلق عليها القسم العام، وهي تضم القواعد التي تطبق على جميع الجرائم والعقوبات إلا ما استثناه المشرع منها بنص خاص. من ذلك القواعد التي تحدد نطاق تطبيق قانون العقوبات من حيث الزمان والمكان، وتبين أسباب الإباحة وموانع العقاب. وترسم إطار السياسة الجنائية بتحديد شروطها وبيان ما يعتريها من مؤثرات تؤدي إلى تخفيفها أو تحول دون قيامها. كذلك، يشمل القسم العام النصوص التي تحدد العقوبات وتبين أنواعها والأحكام الخاصة بكل منها.
أما المجموعة الثانية، فيطلق عليها القسم الخاص. وهي تشمل النصوص التي تحدد الجرائم المختلفة فتبين أركانها والعقوبات المقررة لها، والظروف التي قد ترتكب فيها ومدى تأثير هذه الظروف على العقوبة تشديدا أو تخفيفا().
والمجموعة الأولى من النصوص تتسم بقابليتها للتطبيق على الجريمة بوجه عام، أيا كان موضع النص عليها، وسواء كان ذلك في قانون العقوبات ذاته أو في قانون آخر. ومن ثم، يثور التساؤل بشأنها عما إذا كانت تسري كذلك على الجرائم المنصوص عليها في القوانين الجنائية الخاصة أم لا. وفي الإجابة على هذا التساؤل، يمكن القول بأن القاعدة العامة تقضي بسريان الأحكام العامة لقانون العقوبات على القوانين الجنائية الخاصة. ومع ذلك، يجوز أن يقرر المشرع في القانون الجنائي الخاص حكما مغايرا للأحكام العامة لقانون العقوبات. وهنا، فإن الحكم الخاص يكون هو الواجب التطبيق في هذه الحالة.
وسنتناول فيما يلي القاعدة العامة القاضية بسريان الأحكام العامة لقانون العقوبات على القوانين الجنائية الخاصة، ثم نتبع ذلك بأهم الاستثناءات الواردة في القوانين الجنائية الخاصة، وذلك في مبحثين، على النحو التالي:
المبحث الأول
سريان الأحكام العامة لقانون العقوبات
على القوانين الجنائية الخاصة
تمهيد وتقسيم:
يرى بعض الفقه() – بحق – أن التشريعات الجنائية الخاصة تندمج من الناحية القانونية في قانون العقوبات، وتخضع بالتالي للمبادىء الواردة في قسمه العام، ما لم ينص التشريع الخاص على عكس ذلك. وفي ذات المعنى، يؤكد بعض الفقه() أن وصف هذه القوانين بأنها مكملة أو ملحقة بقانون العقوبات يعني بداهة أن يراعى في تطبيقها الأحكام العامة في قانون العقوبات، وهذا ما يفسر عدم النص على هذا المبدأ في معظم القوانين. بل أن نصوص القوانين المكملة لقانون العقوبات قد تدمج في صلب قانون العقوبات ذاته عند تعديله تعديلا شاملا، وهو ما فعله المشرع السوري في سنة 1949م، حيث أدخل في قانون العقوبات أحكام الأسلحة والذخائر (المادة 312 وما بعدها)، وتعاطي المسكرات والمخدرات (المادة 608 وما بعدها)، والغش في المعاملات (المادة 663 وما بعدها). وهو الملحوظ أيضا في مشروع قانون العقوبات الموحد().
ومع ذلك، وزيادة في التأكيد، عمدت بعض التشريعات إلى النص صراحة على سريان الأحكام العامة لقانون العقوبات على القوانين العقابية الخاصة. وسنتناول هذا المبدأ في التشريع المقارن، ثم نتناول اختلاف بعض أحكام القضاء المصري بشأن تطبيق مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون على القوانين العقابية الخاصة، وذلك في مطلبين على النحو التالي.
المطلب الأول
الإقرار الصريح للمبدأ في القانون المقارن
عمدت بعض التشريعات العربية إلى النص صراحة على سريان الأحكام العامة لقانون العقوبات على القوانين الجنائية الخاصة. فعلى سبيل المثال، تنص المادة الثالثة من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة رقم 3 لسنة 1987م على أن «تسري أحكام الكتاب الأول من هذا القانون على الجرائم المنصوص عليها في القوانين العقابية الأخرى ما لم يرد نص فيها على خلاف ذلك». وقد جاء الكتاب الأول من قانون العقوبات الاتحادي تحت عنوان «الأحكام العامة». وتتضمن أحكام الكتاب الأول من قانون العقوبات الاتحادي بعض المبادىء الأساسية في النظام العقابي مثل شخصية الجريمة والعقوبة، وعدم فرض تدبير جنائي إلا في الأحوال وبالشروط التي ينص عليها القانون، ومدلول الموظف العام ومدلول لفظ الحكومة، وتحديد طرق العلانية، والاعتماد على التقويم الشمسي في احتساب المدد والمواعيد، وأن تطبيق أحكام هذا القانون لا يخل بما يكون للخصوم أو لغيرهم من الحق في الاسترداد أو التضمينات أو المصروفات أو أية حقوق أخرى (الباب الأول). كذلك، يتضمن الكتاب الأول من قانون العقوبات الاتحادي تحديد نطاق تطبيق هذا القانون من حيث الزمان ومن حيث المكان والأشخاص (الباب الثاني). ويشتمل الكتاب الأول أيضا على تحديد أنواع الجرائم، وأركانها، والمشاركة الإجرامية، وأسباب الإباحة وتجاوز حدودها (الباب الثالث). ويبين كذلك أحكام المسئولية الجنائية وموانعها، مميزا في هذا الشأن بين مسئولية الأشخاص الطبيعيين ومسئولية الأشخاص الاعتبارية (الباب الرابع). كذلك، يحدد المشرع في الكتاب الأول من قانون العقوبات الاتحادي العقوبات الأصلية والفرعية والتبعية والتكميلية ووقف تنفيذ العقوبة وتعدد الجرائم والعقوبات (الباب الخامس)، ويبين الأعذار القانونية والظروف التقديرية المخففة والمشددة (الباب السادس)، وأنواع التدابير الجنائية (الباب السابع)، والدفاع الاجتماعي وحالاته والخطورة الاجتماعية وتدابير الدفاع الاجتماعي (الباب الثامن)، وأحكام العفو الشامل والعفو عن العقوبة والعفو القضائي (الباب التاسع). وهذه الأحكام جميعها تسري على الجرائم المنصوص عليها في القوانين العقابية الأخرى، شأنها في ذلك شأن الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات، ما لم يرد نص في هذه القوانين العقابية على خلاف ذلك(). وتطبيقا لذلك، طبقت المحكمة الاتحادية العليا – في أكثر من مناسبة – الأحكام العامة الواردة في قانون العقوبات الاتحادي على الجرائم المنصوص عليها في قوانين خاصة، طالما أن هذه القوانين تخلو من النص على حكم مخالف. فعلى سبيل المثال، قضت المحكمة الاتحادية العليا بأنه «لما كان الحكم المطعون فيه قد دان المطعون ضده بجرائم القتل الخطأ وإلحاق ضرر بممتلكات الغير وعدم اهتمامه بأمر المصاب في الحادث وقيادته السيارة بسرعة زائدة وبطريق التهور وبرخصة سوق منتهية وعاقبه على كل هذه الجرائم بعقوبة واحدة وهي الأشد على الجرائم المذكورة كلها مستعملا قاعدة الترابط. وحيث إن المادة (88) من قانون العقوبات اشترطت لتوفير حالة الترابط بإقرار عقوبة واحدة لجرائم متعددة أن يتوافر عنصران أساسيان. الأول: أن ترتكب هذه الجرائم لغرض واحد. والثاني: أن تكون مرتبطة ببعضها ارتباطا لا يقبل التجزئة وبالنظر إلى جريمة القيادة برخصة منتهية يتبين أنها لا يتوافر بشأنها شرط من الشرطين المذكورين لاعتبارها مترابطة مع باقي الجرائم الأخرى. إذ القيادة بدون رخصة قيادة لا يشترط لتصبح جريمة أن يرتكب المتهم بها حادثة ليعاقب عليها بل مجرد قيادته للسيارة برخصة منتهية يستحق الإدانة والعقوبة بعقوبة مستقلة عن هذه الجريمة لأنه لا تجمع بينها وبين باقي الجرائم الأخرى وحدة النصوص والارتباط الذي لا يقبل التجزئة مما كان يتعين على المحكمة الاستئنافية أن تفرد لها عقوبة مستقلة عن عقوبة باقي الجرائم وبمخالفة المحكمة لذلك يكون حكمها باطلا لمخالفته للقانون باستعماله المادة (88) في غير محلها الصحيح الأمر الذي يكون معه ما جاء في هذا السبب من النعي صحيحا ويتعين معه نقض الحكم المطعون فيه»().
وقد ورد النص على ذات الحكم في المادة الثامنة من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937م، بنصها على أن «تراعى أحكام الكتاب الأول من هذا القانون في الجرائم المنصوص عليها في القوانين واللوائح الخصوصية إلا إذا وجد فيها نص يخاف ذلك». وتطبيقا لذلك، قضت محكمة النقض المصرية بأن «قواعد الاشتراك المنصوص عليها في قانون العقوبات تسري أيضا – بناء على المادة 8 من هذا القانون – على الجرائم التي تقع بالمخالفة لنصوص القوانين الجنائية الخاصة إلا إذا وجد في هذه القوانين نص على غير ذلك»(). وفي ذات المعنى، تقول المحكمة الكائنة على قمة القضاء العادي في مصر «إن قواعد الاشتراك المنصوص عليها في قانون العقوبات تسري أيضا – بناء على المادة الثامنة من هذا القانون – على الجرائم التي تقع بالمخالفة لنصوص القوانين الجنائية الخاصة إلا إذا وجد في هذه القوانين نص على غير ذلك. ولما كان القانون رقم 394 لسنة 1954 بشأن إحراز الأسلحة والذخائر والقوانين المعدلة له لا تمنع نصوصه من معاقبة الشريك في الجرائم الواردة به فإن ما يثيره المتهم من أن القانون لا يعرف الاشتراك في إحراز السلاح يكون غير سديد»(). كذلك، قضت محكمة النقض المصرية بأن «المادة الأولى من قانون العقوبات تنص على سريان أحكامه على كل من يرتكب في القطر المصري جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه إلا إذا كان غير خاضع لقضاء المحاكم الأهلية بناء على قوانين أو معاهدات أو عادات مرعية. والمادة الثامنة منه تعمم هذا الحكم بشأن كافة الجرائم المنصوص عليها في القوانين واللوائح المصرية الأخرى. فإذا ضبط بحار صيني من بحارة مركب إنجليزية بمدينة بور سعيد محرزا لمواد مخدرة فمحاكمته يجب أن تكون أمام المحاكم المصرية لأن مجرد اشتغاله بحارا بمركب إنجليزية لا يجعله من ذوي الامتيازات، ولأن القانون لم يفرق في المجرمين بين المقيمين منهم بالقطر المصري وبين المارين به مجرد مرور، بل كل ما يتطلبه هو وقوع الجريمة على أرض مصرية من شخص لا توجد قوانين ولا معاهدات ولا عادات مرعية تخرجه من انطباق القوانين المصرية عليه»().
وتقرر التشريعات الجنائية العربية الأخرى ذات القاعدة (المادة 11 من قانون العقوبات الليبي؛ المادة 16 البند الأول من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969م؛ المادة 111 من قانون العقوبات البحريني رقم 15 لسنة 1976م؛ المادة السادسة من القانون اليمني رقم 12 لسنة 1994م بشأن الجرائم والعقوبات؛ المادة الثانية من قانون عقوبات قطر رقم 11 لسنة 2004م؛ الفصل 4 من مجموعة القانون الجنائي المغربي).
وقد يرد النص على هذه القاعدة في القانون الجنائي الخاص ذاته، بحيث يقرر سريان الأحكام العامة الواردة في قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية فيما لم يرد به نص في القانون العقابي الخاص (المادة 21 من القانون العماني بشأن مكافحة الاتجار بالبشر الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 126 لسنة 2008م).
وهكذا، يسوغ القول بأنه إزاء التشريعات الجنائية الخاصة المتفرقة، لا تزال أحكام القسم العام من قانون العقوبات تحتفظ بأهميتها: إذ تظل واجبة التطبيق بشأن ما جاء في تلك التشريعات من أحكام متعلقة بالتجريم والعقاب، طالما لم يرد فيها ما ينبئ عن إرادة المشرع في الخروج على قواعد القسم العام من قانون العقوبات. فضلا عن ذلك، فإن نصوص التجريم والعقاب الواردة في تلك التشريعات الخاصة يجري تفسيرها على ضوء أحكام القسم العام().
المطلب الثاني
اختلاف القضاء بشأن قاعدة عدم جواز الاعتذار بجهل القانون
عدم جواز الاعتذار بجهل القانون هو أحد المبادىء القانونية العامة في القانون العقابي. وقد حرصت بعض التشريعات الجنائية المقارنة على تقرير هذا المبدأ صراحة (المادة 42 من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة 37 البند الأول من قانون العقوبات العراقي لسنة 1969م؛ الفصل 2 من القانون الجنائي المغربي؛ المادة 85 من قانون العقوبات الأردني لسنة 1960م؛ المادة 222 البند الأول من قانون العقوبات السوري لسنة 1949م).
وعلى الرغم من إقرار التشريعات الجنائية للقاعدة آنفة الذكر، فإن أحكام القضاء تمايز أحيانا بين الجهل بأحكام قانون العقوبات وبين الجهل بالأحكام اللازمة لانطباق النموذج الإجرامي في القوانين الجنائية الخاصة. بيان ذلك أن محكمة النقض المصرية قضت – في أحد أحكامها – بأن «تأول المتهم – بفرض ثبوت صحته – لنصوص قانون العمل، وهل ما وقع منه يعد قرارا تأديبيا بفصل العامل طبقا لأحكام المادة 67/ 1 أو فسخا للعقد طبقا للمادة 76/ 6 من القانون رقم 91 لسنة 1959 وهل الجزاء الذي أوقعه يتناسب مع الجرم الذي ارتكبه العامل أو يجاوزه، خصوصا إذا كان قد انصاع فيما أوقعه من جزاء لأمر النيابة العامة بتأديب العامل شرطا لحفظ الدعوى الجنائية اكتفاء بمجازاته، وهل قرار اللجنة الثلاثية يلزمه بإعادة العامل أو لا يلزمه، وهل يترتب على مخالفته البطلان أو يستوجب العقوبة، كل أولئك إنما هو دعوى بجهل مركب من جهل بقاعدة مقررة في قانون العمل وبالواقع في وقت واحد مما يجب قانونا في المسائل الجنائية اعتباره في جملته جهلا بالواقع. ولما كان الحكم المطعون فيه لم يعرض لدلالة هذا كله على انتفاء القصد الجنائي لدى الطاعن فوق دلالته على انتفاء الركن المادي في الجريمة فإنه يكون قاصر البيان واجب النقض»().
وهكذا، وعلى الرغم من تواتر الأحكام على أن العلم بالقانون الجنائي والقوانين العقابية المكملة له، مفترض في حق الكافة، ومن ثم فإنه لا يقبل الدفع بالجهل بها أو الغلط فيها، كذريعة لنفي القصد الجنائي()، فقد اعتدت المحكمة الكائنة على قمة القضاء العادي في مصر بتأول المتهم لنصوص قانون العمل، وما إذا كان قرار اللجنة الثلاثية يلزمه بإعادة العامل أو لا يلزمه، وهل يترتب على مخالفته البطلان أو يستوجب العقوبة، واعتبرته دعوى بجهل مركب من جهل بقاعدة مقررة في قانون العمل وبالواقع في وقت واحد، مما يجب قانونا في المسائل الجنائية اعتباره في جملته جهلا بالواقع، من شأنه أن ينفي القصد الجنائي(). ويكفي هنا أن نقارن بين هذا الحكم وبين حكم آخر صادر عن ذات المحكمة يتعلق بالقانون رقم 45 لسنة 1962م في شأن تنظيم المباني والقانون رقم 55 لسنة 1964م بتنظيم وتوجيه أعمال البناء. إذ تؤكد المحكمة أنه «لما كان القانون رقم 45 لسنة 1962م في شأن تنظيم المباني والقانون رقم 55 لسنة 1964م بتنظيم وتوجيه أعمال البناء هما تشريعان مكملان لأحكام قانون العقوبات بما ورد فيهما من جرائم وعقوبات مقررة ولا يعذر بالجهل بأحكامهما، لما كان ذلك، وكان ما أثاره الطاعن من أنه كان يجهل إجراءات الحصول على الترخيص وما تم من إجراءات كان له أثره على القصد الجنائي لديه، وأن جهله هذا يشكل خطأ في الواقع، والقانون الخاص بالمباني لا يعد من القوانين الجنائية مما يؤدي إلى الإعفاء من المسئولية – لا يعدو أن يكون دفعا بالجهل بأحكام هذين القانونين أنزله منزلة الجهل بالواقع الذي ينتفي به القصد الجنائي، وهو بهذه المثابة دفاع قانوني ظاهر البطلان»().
وللإدلاء برأينا في هذا الشأن، نرى من الملائم أن نعرض أولا للتمييز القائم في أحكام القضاء بين الغلط أو الجهل بقوانين عقابية والغلط أو الجهل بقوانين غير عقابية، ونحاول التعرف على علة هذا التمييز.
يلاحظ بعض الفقه() أن
وبعبارة أخرى، فإن قانون العقوبات الأصلي أو الأساسي يتضمن مجموعة القواعد القانونية التي لا تتعرض للتغيير والتبديل على فترات متقاربة، لأنها تحمي مصالح دائمة وثابتة نسبيا، ولأنها تقرر جرائم وعقوبات مستقرة في وجدان المجتمع، مثل جرائم القتل والضرب والسرقة وخيانة الأمانة والتزوير. أما المصالح التي يحميها قانون العقوبات التكميلي، فهي مصالح متطورة ومتغيرة، مما اقتضى النص عليها في قوانين مستقلة عن تقنين قانون العقوبات، حتى يتسنى تغييرها وتعديلها بما يتلائم مع طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع().
التمييز بين الجرائم الطبيعية والجرائم المصطنعة().
المبحث الثاني
أهم الاستثناءات الواردة في القوانين الجنائية الخاصة
تمهيد وتقسيم:
بالنظر إلى الأحكام العامة الواردة في قانون العقوبات، يمكن تقسيمها إلى طوائف ثلاث: الأولى، تضم الأحكام الجنائية الدستورية ذات الطبيعة المطلقة، بحيث لا يجوز للمشرع أن يخالفها أو يخرج عليها بأي حال من الأحوال. ومثال ذلك هو مبدأ عدم رجعية النصوص الجنائية الأشد. وهذه الطائفة تسري بصفة مطلقة على النصوص الجنائية، سواء ورد النص عليها في تقنين العقوبات ذاته أو في أحد القوانين الجنائية الخاصة. فلا يجوز للمشرع أن يقرر حكما خاصا مغايرا في القانون الجنائي الخاص. والثانية، تضم الأحكام الجنائية الدستورية ذات الطبيعة النسبية. ويراد بها الأحكام التي تتمتع بقيمة دستورية، ولكن يجوز مع ذلك الخروج عليها متى اقتضت المصلحة العامة ذلك. فالمشرع يقيم هنا نوعا من الموازنة بين القيم الدستورية المختلفة، مقررا تغليب إحداها على الأخرى. ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في قاعدة رجعية القانون الأصلح للمتهم. فقد يرى المشرع من الملائم الخروج على هذه القاعدة في حالات معينة، كما هو الحال بالنسبة للقوانين مؤقتة المدة(). والثالثة، تشمل الأحكام الجنائية العادية، التي أملتها السياسة الجنائية المتبعة بواسطة المشرع، في إطار المقارنة بين النظريات الفقهية المختلفة.
وفي ضوء ما سبق، يبدو متصورا أن يتضمن القانون الجنائي الخاص خروجا على بعض الأحكام العامة الواردة في تقنين العقوبات، بشرط ألا يكون الحكم العام متسما بقيمة دستورية مطلقة. وسنتناول فيما يلي أهم الاستثناءات الواردة في القوانين الجنائية الخاصة.
المطلب الأول
التفويض التشريعي في التجريم والعقاب
المبدأ الدستوري يقضي بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون. والواقع أن استخدام أسلوب التفويض التشريعي في التجريم والعقاب يعد أحد الأساليب التي تلجأ إليها التشريعات الجنائية الخاصة، في الأغلب الأعم من الأحوال.
تنص المادة الثالثة من القانون الاتحادي رقم (14) لسنة 1995م في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية على أن «يجوز تعديل الجداول المرفقة بهذا القانون بالحذف أو الإضافة أو تغيير النسب عدا الجداول أرقام (1) و(2) و(4) و(5) فلا يجوز التعديل فيها إلا بالإضافة فقط. ويتم التعديل بقرار من مجلس الوزراء بناء على عرض وزير الصحة بعد موافقة لجنة طبية يصدر بتشكيلها قرار منه ويشترك في عضويتها ممثل عن وزارة الداخلية يختاره وزيرها».
المطلب الثاني
التوسع في نطاق سريان القانون الجنائي الخاص
تنص المادة 28 من المرسوم بقانون اتحادي رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أنه «مع عدم الإخلال بأحكام الفصل الثاني من الباب الثاني من الكتاب الأول من قانون العقوبات، تسري أحكام هذا المرسوم بقانون على كل من ارتكب إحدى الجرائم الواردة به خارج الدولة إذا تم ارتكابها: (أ) ضد أحد مواطني الدولة. (ب) ضد الأملاك العامة للحكومة في الخارج، بما في ذلك السفارات أو غيرها من الأماكن الدبلوماسية أو القنصلية التابعة لها. (ج) بهدف حمل الدولة على القيام بعمل أو الامتناع عنه. (د) على متن وسيلة مواصلات مسجلة لدى الدولة أو تحمل علمها». وتضيف الفقرة الثانية من ذات المادة أن «تسري أحكام هذا المرسوم بقانون على كل من وجد في إقليم الدولة بعد أن ارتكب في الخارج إحدى الجرائم المنصوص عليها فيه والواردة في إحدى الاتفاقيات الدولية النافذة التي تكون الدولة طرفا فيها، وذلك في حال عدم تسليمه».
المطلب الثالث
تجريم التحريض غير المتبوع بأثر
تنص المادة 20 من المرسوم بقانون اتحادي رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أن «يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات كل من حرض على ارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا المرسوم بقانون إذا لم يترتب على هذا التحريض أثر».
وينبغي هنا التنويه إلى أن التحريض غير المتبوع بأثر يعني بداهة أن أقل خطورة من التحريض المتبوع بأثر. وأن تجريم التحريض غير المتبوع بأثر هو من قبيل التجريم التحوطي. وبعبارة أخرى، فإن التحريض غير المتبوع بأثر، في الحالات التي يقرر فيها المشرع تجريمه، يعد من جرائم الخطر، وليس من جرائم الضرر.
المطلب الرابع
تقرير المسئولية الجنائية للشخص المعنوي
ثار جدل واسع حول مدى ملائمة تقرير المسئولية الجنائية للشخص المعنوي.
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة 25 من المرسوم بقانون رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أنه «مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر، يعاقب بغرامة لا تقل عن مائة ألف درهم ولا تزيد على خمسمائة ألف درهم كل شخص معنوي ارتكب ممثلوه أو مديروه أو وكلاؤه أو ساهموا في ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا المرسوم بقانون إذا وقعت باسمه ولحسابه. ويحكم بحل الشخص المعنوي وإغلاق المكان الذي يزاول فيه نشاطه...». وتضيف المادة 26 من ذات المرسوم بقانون أنه «في تطبيق أحكام هذا المرسوم بقانون لا يترتب على تقرير مسؤولية الشخص المعنوي استبعاد المسئولية الجنائية للأشخاص الطبيعيين الفاعلين الأصليين أو الشركاء عن ذات الوقائع التي تقوم بها الجريمة».
المطلب الخامس
استبعاد تطبيق الظروف المخففة
الظروف المخففة
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة 65 من القانون الاتحادي رقم (14) لسنة 1995م في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية على أن «لا يجوز النزول بالعقوبة التي يحكم بها تطبيقا لهذا القانون». وتنص المادة 41 من المرسوم بقانون اتحادي رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أن «لا يجوز تطبيق أحكام المادتين (97) و(98) من قانون العقوبات عند الحكم بالإدانة في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا المرسوم بقانون عدا الأحوال التي يقرر فيها هذا المرسوم بقانون عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد، فيجوز النزول بعقوبة الإعدام إلى السجن المؤبد، والنزول بعقوبة السجن المؤبد إلى السجن المؤقت الذي لا تقل مدته عن عشر سنوات».
وفي سلطنة عمان، تنص المادة 20 من قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 126 لسنة 2008م على أن «... لا يجوز النزول عن الحد الأدنى المقرر للعقوبة».
المطلب السادس
استبعاد نظام وقف تنفيذ العقوبة
تمهيد وتقسيم:
نظام وقف تنفيذ العقوبة
§1. استبعاد نظام وقف التنفيذ بوجه عام
تنص المادة 46 الفقرة الأولى من قانون مكافحة المخدرات المصري رقم 182 لسنة 1960م على أن «لا يجوز وقف تنفيذ الحكم الصادر بعقوبة الجنحة على من سبق الحكم عليه في إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون». وتنص المادة 37 من قانون تشغيل العاملين بالمناجم والمحاجر الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1981م على أن «لا يجوز النزول عن الحد الأدنى للعقوبة ولا إيقاف التنفيذ فيها». وتنص المادة 155 من قانون الزراعة المصري على أن «يعاقب على مخالفة حكم المادة (151) من هذا القانون بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تزيد عن ألف جنيه عن كل فدان أو جزء منه من الأرض موضوع المخالفة... وفي جميع الأحوال لا يجوز الحكم بوقف تنفيذ العقوبة». وقد ورد حظر وقف التنفيذ عاما، الأمر الذي يعني شموله لكل من عقوبتي الحبس والغرامة.
وفي القانون الإماراتي، تنص المادة 36 مكررا من القانون الاتحادي رقم 6 لسنة 1973م في شأن دخول وإقامة الأجانب على أن «في تطبيق العقوبات المنصوص عليها في المواد السابقة، لا تسري أحكام المواد (83) و(121) و(147)، الخاصة بوقف التنفيذ، واستبدال العقوبة، والعفو القضائي، الواردة في القانون الاتحادي رقم (3) لسنة 1987م المشار إليه»().
وفي سلطنة عمان، تنص المادة 20 من قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 126 لسنة 2008م على أن «لا يجوز الحكم بوقف تنفيذ العقوبة الصادرة على المحكوم عليه في جريمة الاتجار بالبشر...».
§2. استبعاد وقف تنفيذ عقوبة الغرامة
ووفقا للمادة 15 من قانون حماية حق المؤلف رقم 354 لسنة 1954م – المعدلة بالقانون رقم 38 لسنة 1992م – لا يجوز إيقاف تنفيذ عقوبة الغرامة. وتنص المادة 98 الفقرة الثانية من قانون البيئة المصري على أن «لا يجوز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة...». ويتضمن قانون الزراعة المصري العديد من النصوص التي تقرر استبعاد وقف تنفيذ عقوبة الغرامة. إذ تنص المادة 154 الفقرة الثالثة على أن «لا يجوز الحكم بوقف عقوبة الغرامة». وقد ورد حظر وقف التنفيذ قاصرا على عقوبة الغرامة فقط، على الرغم من أن المشرع يقرر للمخالفة الواردة في هذه المادة عقوبتي الحبس والغرامة. وتنص المادة 156 من ذات القانون على أن «يعاقب على مخالفة أي من أحكام المادة (152) من هذا القانون أو الشروع فيها بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه... وفي جميع الأحوال لا يجوز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة». ومفاد هذا النص أن المشرع ارتأى حظر وقف تنفيذ عقوبة الغرامة، دون عقوبة الحبس التي يجوز الحكم بوقف تنفيذها متى كان حكم الإدانة قد صدر بعقوبة الحبس لمدة أقل من سنة، وذلك طبقا للأحكام العامة في قانون العقوبات. وتنص المادة 157 الفقرة الأولى من ذات القانون على أن «يعاقب على مخالفة حكم المادة (153) من هذا القانون أو الشروع في ذلك بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه،...، وفي جميع الأحوال لا يجوز الحكم بعقوبة تنفيذ عقوبة الغرامة». وهكذا، اختار المشرع وقف تنفيذ عقوبة الغرامة دون عقوبة الحبس.
المطلب السابع
استبعاد الحكم العام بشأن تعدد الجرائم مع الارتباط
راجع: عمرو الوقاد، ص 110 وما بعدها.
تنص المادة 154 من قانون الزراعة المصري على أن «يعاقب على مخالفة حكم المادة (150) من هذا القانون بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه عن كل فدان أو جزء منه من الأرض موضوع المخالفة. فإذا كان المخالف هو المالك وجب إلا يقل الحبس عن ستة أشهر. وإذا كان المخالف هو المستأجر دون المالك وجب الحكم أيضا بإنهاء عقد الإيجار ورد الأرض إلى المالك. ويعتبر مخالفا في تطبيق هذا الحكم كل من يملك أو يحوز أو يشتري أو يبيع أتربة متخلفة عن تجريف الأراضي الزراعية أو ينزل عنها بأية صفة أو يتدخل بصفته وسيطا في شئ من ذلك ويستعملها في أي غرض إلا إذا أثبت أن التجريف كان صادرا طبقا لأحكام المادة 150 من هذا القانون والقرارات التي تصدر تنفيذا لأحكامه». وتضيف الفقرة الثالثة من ذات المادة أنه «في جميع الأحوال تتعدد العقوبة بتعدد المخالفات...».
المطلب الثامن
تقرير أحكام خاصة بالمصادرة
تمهيد وتقسيم:
تعد المصادرة أكثر الجزاءات فعالية في مكافحة الجريمة بوجه عام، إذ تكفل هذه العقوبة – كما قلنا – معاملة الجاني بنقيض مقصوده وحرمانه من ثمرة نشاطه الإجرامي().
ويحدد قانون العقوبات الأشياء التي تصلح محلا للمصادرة بأنها «الأشياء التي تحصلت من الجريمة وكذلك الأسلحة والآلات التي استعملت أو التي من شأنها أن تستعمل فيها» (المادة 30 من قانون العقوبات المصري؛ المادة 82 من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة). ولكن، قد يخرج المشرع على هذه القاعدة، وذلك في إطار التشريعات الجنائية الخاصة.
والمصادرة عقوبة عينية، طبقا للأحكام العامة لقانون العقوبات في غالبية الدول العربية. ولذلك ينبغي في الشيء موضوع المصادرة أن يكون مضبوطا، ضمانا لأن يصادف الحكم بالمصادرة محلا، وتحققا من قابليته للتنفيذ، وتمكينا للقضاء من معاينته للتحقق من توافر شروط المصادرة فيه(). غير أن المشرع قد خرج على هذه القاعدة في بعض التشريعات الجنائية الخاصة.
من ناحية أخرى، القاعدة في الأموال محل المصادرة أن تؤول ملكيتها إلى الدولة. ولكن المشرع يخرج على هذا الأصل في بعض التشريعات الجنائية الخاصة، مقررا أيلولة ملكية الأموال المصادرة إلى المجني عليه. وسنتناول فيما يلي النقاط الثلاث آنفة الذكر، تباعا.
§1. التحديد الخاص لمحل المصادرة
قد يرد النص في بعض التشريعات الجنائية الخاصة على تحديد مختلف لمحل المصادرة، كأن يرد النص مثلا على مصادرة الشئ «موضوع الجريمة»(). فعلى سبيل المثال، تنص المادة ( ) من المرسوم بقانون رقم 163 لسنة 1950م – المعدل بالقانون رقم 28 لسنة 1958م – على أن «». راجع: حكم محكمة النقض الصادر في 30 مايو سنة 1967م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 18، رقم 147، ص 737.
وتنص المادة 140 الفقرة الأولى من قانون الزراعة المصري على أن «كل مخالفة للمادة 133 يعاقب مرتكبها بالحبس مدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثين جنيها ولا تزيد على مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين وذلك فضلا عن مصادرة الحيوانات أو اللحوم أو المنتجات أو المتخلفات المهربة». وغني عن البيان أن الأشياء المذكورة في هذا النص تشكل محل الجريمة. والفرض في هذه الأشياء أنها صالحة للاستهلاك، وتعد بالتالي مشروعة في ذاتها، الأمر الذي يعني أن المصادرة هنا ليست من قبيل التدبير الوقائي. ونستند في هذا الفهم إلى أن المادة 133 تنص على إعدام ما يكون منها مصابا بأمراض وبائية أو معدية على أن تثبت الإصابة بتقرير من الطبيب البيطري المختص.
ووفقا للمادة 141 من ذات القانون، «كل مخالفة للقرارات الصادرة تنفيذا لأحد البنود (أ، ج، ﻫ) من المادة 112 أو إحدى المادتين 113، 115، يعاقب مرتكبها بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين». وتضيف الفقرة الثانية من ذات المادة أن «يجب الحكم بمصادرة المواد محل المخالفة».
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة الرابعة الفقرة الثالثة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أن «يحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأموال والأشياء محل الجريمة». وتنص المادة الثامنة الفقرة الثالثة من ذات المرسوم بقانون على أن «يحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأموال والأشياء محل الجريمة وأدوات ارتكابها». وتنص المادة (12) الفقرة الثانية من ذات المرسوم بقانون على أن «يحكم بمصادرة الأموال أو الممتلكات محل الجريمة...». ووفقا للمادة 25 الفقرة الثانية من ذات المرسوم بقانون، «يحكم بحل الشخص المعنوي وإغلاق المكان الذي يزاول فيه نشاطه ومصادرة الأموال والأشياء محل الجريمة...». وقد ورد هذا النص بصدد تقرير مسئولية الشخص المعنوي إذا ارتكب ممثلوه أو مديروه أو وكلاؤه أو ساهموا في ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا المرسوم بقانون إذا وقعت باسمه أو لحسابه. وتنص المادة 56 من القانون الاتحادي رقم (14) لسنة 1995م في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية على أن «يحكم بمصادرة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية التي تكون محلا لجريمة من الجرائم المعاقب عليها بموجب هذا القانون. كما يحكم بمصادرة الآلات والمواد المضبوطة ووسائل النقل التي تكون قد استخدمت في ارتكاب الجريمة».
وقد يرى المشرع الاكتفاء بأن يجيز للسلطة العامة الاستيلاء على الأشياء موضوع المخالفة بثمن المثل، دون أن يصل الأمر إلى حد المصادرة. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 147 من قانون الزراعة المصري على أن «كل مخالفة لإحدى المواد 120، 121، 122 أو القرارات الصادرة تنفيذا لها، يعاقب مرتكبها بغرامة لا تزيد على عشرة جنيهات، ويجوز لوزير الزراعة الاستيلاء على النحل موضوع المخالفة بثمن المثل».
وقد يخول المشرع للسلطة العامة مكنة التنفيذ المباشر للالتزام الواقع على عاتق الأشخاص المخاطبين بأحكام القانون. وبيانا لذلك، نضرب مثالا بالمادة 134 الفقرة الأولى من قانون الزراعة المصري، والتي توجب ذبح الحيوانات المستوردة لغرض الذبح خلال ثلاثين يوما من تاريخ إيداعها في محجر بيطري. ووفقا للمادة 148 من ذات القانون، فإن «كل من خالف الفقرة الأولى من المادة 134 يعاقب بغرامة قدرها جنيه واحد عن كل رأس من الماشية ومائتا مليم عن كل رأس من الأغنام أو الماعز. ولوزارة الزراعة دون انتظار الحكم أن تذبح الحيوانات محل المخالفة على نفقة المخالف وتبيعها لحسابه».
ولبيان الفارق بين التحديد الخاص لمحل المصادرة وبين الحكم العام للمصادرة في قانون العقوبات، نرى من الملائم التنويه إلى الفارق بين استخدام السلاح في ارتكاب جريمة القتل وبين حيازة السلاح بدون ترخيص. ففي الحالة الأولى، يكون السلاح هو الوسيلة المستخدمة في اقتراف الجريمة، ويجوز بالتالي مصادرته طبقا للأحكام العامة في قانون العقوبات. أما في الحالة الثانية، فإن السلاح هو المحل الذي يرد عليه الحظر، ويكون بالتالي محلا لجريمة الحيازة بدون ترخيص. ومن ثم، لم يكن ممكنا مصادرته بدون النص على مصادرة الشئ موضوع الجريمة.
ولا ندري ما هي الضوابط التي يستعين بها المشرع في تحديد الحالات التي يقرر بشأنها مصادرة المواد محل المخالفة، والحالات التي يرى من الملائم فيها الاكتفاء بإجازة الاستيلاء عليها بثمن المثل، والحالات التي يخول فيها للسلطة العامة مكنة التنفيذ بنفسها للالتزام المقرر قانونا.
من ناحية أخرى، تجدر الإشارة هنا إلى أن المادة التاسعة من القانون الاتحادي رقم 51 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم الاتجار بالبشر في دولة الإمارات العربية المتحدة تنص على أنه «مع عدم الإخلال بحقوق الغير حسن النية، يحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأموال أو الأمتعة أو الأدوات التي استعملت في ارتكاب أي من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون». فهنا يقرر المشرع وجوب الحكم «بمصادرة الأموال أو الأمتعة أو الأدوات التي استعملت في ارتكاب أي من الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم الاتجار بالبشر»، دون أن يذكر الحكم بالنسبة للأموال المتحصلة من الجريمة، الأمر الذي يثير التساؤل عن الحكم القانوني بالنسبة لهذه الأموال، وما إذا يطبق بشأنها الحكم العام الوارد في المادة 82 من قانون العقوبات الاتحادي أم لا. والواقع أن نص المادة التاسعة من قانون مكافحة الاتجار بالبشر مقتبس من القانون الاسترشادي النموذجي العربي بشأن مكافحة الاتجار بالأشخاص.
§2. تقرير غرامة المصادرة
يقصد بغرامة المصادرة «الغرامة التي يتعين الحكم بها بدلا من الحكم بالمصادرة إذا لم تضبط المواد موضوع الجريمة لأي سبب كان». وقد نص قانون الجمارك وقانون الرقابة على النقد وقانون غسل الأموال على هذا النوع من الغرامات(). إذ تنص المادة 122 الفقرة الثانية من قانون الجمارك المصري على وجوب الحكم بمصادرة البضائع موضوع التهريب. فإذا لم تضبط حكم بما يعادل قيمتها.
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة الرابعة الفقرة الرابعة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أن «تقضي المحكمة بمصادرة متحصلات الجريمة، أو ممتلكات تعادل قيمتها إذا كانت المتحصلات قد حولت أو بدلت جزئيا أو كليا أو اختلطت بممتلكات أخرى اكتسبت من مصادر مشروعة». وتنص المادة 12 الفقرة الثانية من ذات المرسوم على أن «يحكم بمصادرة الأموال أو الممتلكات محل الجريمة ومتحصلاتها أو ممتلكات تعادل قيمتها إذا حولت أو بدلت كليا أو جزئيا أو اختلطت بممتلكات أخرى اكتسبت من مصادر مشروعة». وتنص المادة 13 الفقرة الثانية من ذات المرسوم على أن «يحكم بمصادرة الأموال محل الجريمة ومتحصلاتها أو ممتلكات تعادل قيمتها إذا حولت أو بدلت كليا أو جزئيا أو اختلطت بممتلكات أخرى اكتسبت من مصادر مشروعة». ووفقا للمادة 25 الفقرتان الثانية والثالثة من ذات المرسوم بقانون، «يحكم بحل الشخص المعنوي وإغلاق المكان الذي يزاول فيه نشاطه ومصادرة الأموال والأشياء محل الجريمة أو بغرامة إضافية تعادل قيمتها في حالة تعذر ضبطها وذلك مع عدم المساس بحقوق الغير حسن النية. كما تقضي المحكمة بمصادرة متحصلات الجريمة أو ممتلكات تعادل قيمتها إذا حولت أو بدلت كليا أو جزئيا أو اختلطت بممتلكات أخرى اكتسبت من مصادر مشروعة». وقد ورد هذا النص بصدد تقرير مسئولية الشخص المعنوي إذا ارتكب ممثلوه أو مديروه أو وكلاؤه أو ساهموا في ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا المرسوم بقانون إذا وقعت باسمه أو لحسابه. ووفقا للمادة الثالثة عشر من القانون الاتحادي رقم (4) لسنة 2002م في شأن تجريم غسل الأموال، يتعين «مصادرة المتحصلات أو ممتلكات تعادل قيمتها قيمة تلك المتحصلات أو ما يعادل تلك المتحصلات إذا حولت أو بدلت جزئيا أو كليا إلى ممتلكات أخرى أو اختلطت بممتلكات أخرى اكتسبت من مصادر مشروعة». وتوجب المادة الرابعة عشر من ذات القانون «مصادرة المتحصلات أو ممتلكات تعادل قيمتها قيمة تلك المتحصلات أو ما يعادل تلك المتحصلات إذا حولت أو بدلت جزئيا أو كليا إلى ممتلكات أخرى أو اختلطت بممتلكات أخرى اكتسبت من مصادر مشروعة».
وفي سلطنة عمان، تنص المادة 14 من قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 126 لسنة 2008م على أنه «في حالة إدانة شخص بارتكاب جريمة الاتجار بالبشر تصدر المحكمة حكما بمصادرة الأموال والممتلكات والعائدات والوسائل التي استخدمت في ارتكابها أو التي كانت معدة لهذا الغرض والعائدات المستمدة منها». وتضيف الفقرة الثانية من ذات المادة أن «يحكم بمصادرة هذه الأموال والممتلكات والعائدات والوسائل حتى لو حولت أو استبدلت بأموال أخرى أو نقلت ملكيتها إلى شخص آخر وذلك دون الإخلال بحق الغير حسن النية». ولكن الفقرة الثالثة من ذات المادة لم تسير حكم الفقرة الثانية إلى منتهاه. إذ تعقب بقولها «فإذا اختلطت بأموال أو ممتلكات أو عائدات مصدرها مشروع فلا ينصب الحكم بالمصادرة إلا على الأموال والممتلكات والوسائل والعائدات المشار إليها في الفقرة الأولى من هذه المادة».
وفي القانون السعودي، تنص المادة 53 البند الرابع من نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية على أن «مع عدم الإخلال بحقوق الآخرين حسني النية، تصادر بحكم قضائي الأشياء الآتية... ما يعادل القيمة المقررة للمتحصلات غير المشروعة في حالة اختلاط هذه المتحصلات بأموال اكتسبت من مصادر مشروعة».
ويلاحظ بوجه عام أن الجرائم الاقتصادية هي المجال الذي يكثر فيه المشرع من الخروج على قاعدة عينية المصادرة، وبحيث يجيز مصادرة قيمة ما لم يضبط(). والواقع أن تطبيق قاعدة عينية المصادرة يؤدي عملا إلى ندرة الحكم بالمصادرة وإفلات الجاني بثمرة نشاطه الإجرامي في الكثير من الحالات. ويتحقق ذلك بوجه خاص في العديد من الجرائم المستحدثة. ففي جريمة غسل الأموال، على سبيل المثال، يتمثل السلوك الإجرامي في نقل العائدات الإجرامية من مكان لآخر وتحويل المتحصلات وإخفاء أو تمويه حقيقتها أو مصدرها. ومن ثم يغدو صعبا ضبط الأموال محل الجريمة في حالتها الأولى. من أجل ذلك، لم يقصر المشرع الإماراتي المصادرة في جرائم غسل الأموال على المتحصلات المضبوطة، وإنما يمد نطاقها لتشمل «ممتلكات تعادل قيمتها قيمة تلك المتحصلات أو ما يعادل تلك المتحصلات إذا حولت أو بدلت جزئيا أو كليا إلى ممتلكات أخرى أو اختلطت بممتلكات أخرى اكتسبت من مصادر مشروعة».
ويبدو هذا النهج سليما وصائبا في ضوء السلوك الإجرامي لغسل الأموال. يضاف إلى ذلك أن سوء نية الجاني حين يتلف الشيء أو يخفيه لا يجوز أن يكون معطلا حكم القانون ومعرقلا عمل القضاء(). فاعتبارات العقل والمنطق تقضي بألا يستفيد الشخص من خطئه. ويتفق ذلك مع نصوص الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي لا تقصر المصادرة على المتحصلات المستمدة من جريمة غسل الأموال، وإنما تمدها إلى الأموال التي تعادل في قيمتها قيمة المتحصلات المذكورة. إذ تنص المادة الخامسة البند السادس من اتفاقية ڤيينا لسنة 1988م على أنه «(أ) إذا حولت المتحصلات أو بدلت إلى أموال من نوع آخر، خضعت هذه الأموال الأخرى، بدلا من المتحصلات، للتدابير المشار إليها في هذه المادة. (ب) إذا اختلطت المتحصلات بأموال اكتسبت من مصادر مشروعة، كانت هذه الأموال خاضعة للمصادرة، في حدود ما يعادل القيمة المقدرة للمتحصلات المختلطة، وذلك دون الإخلال بأية سلطات تتعلق بالتحفظ عليها أو التجميد». بل أن اتفاقية ڤيينا تمد نطاق المصادرة إلى الإيرادات أو غيرها من المستحقات المستمدة من: 1- المتحصلات؛ 2- الأموال التي حولت المتحصلات أو بدلت إليها؛ 3- الأموال التي اختلطت المتحصلات بها، بنفس الكيفية ونفس القدر اللذين تخضع بهما المتحصلات (المادة 5/ 6/ ج). وفي ذات الاتجاه، وتحت عنوان «المصادرة والضبط»، تنص المادة 12 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية على أنه «... 3- إذا حولت». وتنص المادة 31 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على أنه «... 4- إذا حولت».
ولما كان الانتقال من المصادرة – عند عدم الضبط – إلى بديلها لا يعد من القواعد العامة في القانون، وإنما هو استثناء من أصل، فإنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بغرامة المصادرة إلا إذا وجد نص خاص. أما إذا أوجب القانون المصادرة وخلا من ذكر الغرامة البديلة، فلا يجوز للقاضي أن يحكم بها(). ولا يصح القول بأنه ما دام المشرع قد أوجب هذه الغرامة في جرائم بعينها، فإنه يتعين إيجابها في كل جريمة من جنسها. فهذا قياس، ولا محل للقياس في التجريم والعقاب. وإذا نص القانون على غرامة المصادرة، فلا يجوز القضاء بها في غير الحدود التي ورد النص بها. فإذا أوجب القانون مصادرة موضوع الجريمة، وأجاز مصادرة الوسائل التي استخدمت في ارتكابها، ثم نص على الغرامة البديلة عند عدم ضبط موضوع الجريمة، ولم ينص عليها في حالة عدم ضبط وسائل ارتكابها، فإن الغرامة تقتصر على الحالة الأولى دون الثانية. ومن أمثلة ذلك المادة 122 من قانون الجمارك(). ومن ناحية أخرى، يلاحظ أن القضاء بغرامة المصادرة مرهون بعدم ضبط الأشياء محل المصادرة، سواء كان عدم ضبطها راجعا إلى فعل الجاني نفسه أو إلى فعل غيره. أما إذا وقع الضبط، ومع ذلك امتنعت المصادرة رعاية لحق الغير، كأن تكون الأشياء محل التهريب الجمركي مسروقة من مالكها، فإنه لا يجوز الحكم على الجاني بغرامة بديلة من المصادرة. ذلك بأن القانون إذ أوجب هذه الغرامة خروجا على القاعدة فقد حدد سببها، وهو امتناع الضبط ماديا لا امتناع المصادرة قانونا(). وتلك ثغرة ينبغي على المشرع التدخل لمعالجتها. فالتفرقة في الحكم بين حالة امتناع الضبط ماديا وحالة امتناع المصادرة رعاية لحق الغير حسن النية، ليس لها ما يبررها.
وإذا ضبطت الأشياء محل المصادرة، فليس للقاضي خيار بين المصادرة وغرامتها، بل عليه أن يحكم بالمصادرة. إذ المصادرة أصل والغرامة بدل، ولا يجوز اللجوء إلى البدل إلا عند تعذر الأصل. أما إذا ضبطت بعض الأشياء ولم يضبط باقيها، فإنه يتعين الحكم بمصادرة ما تم ضبطه وبغرامة بديلة عما لم يضبط. ولا يصح الاعتراض بأن في ذلك جمعا بين الغرامة والمصادرة، وتجزئة لكليهما، وأنه إما أن يقضى بالغرامة كاملة أو لا يقضى بها على الإطلاق. فهذا القول يخالف فحوى النص ومفهوم دلالته(). وقد عرضت محكمة النقض لحالة مماثلة، وقضت فيها بأن «».
§3. المصادرة الإدارية
وفي الرابع من مايو سنة 1996م، حكمت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية الفقرة الثالثة من المادة 124 مكررا من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963م، وذلك فيما نصت عليه من أنه «لا يترتب على الصلح رد البضائع المضبوطة في الجرائم المشار إليها، وإنما يجوز رد وسائل النقل والمواد التي استخدمت في التهريب»().
§4. أيلولة الأموال المصادرة
تنص بعض التشريعات الجنائية الخاصة على مصادرة الأشياء المستعملة في الجريمة أو المتحصلة عنها إلى المجني عليه في هذه الجريمة، وذلك على سبيل التعويض. ويحدث هذا في القوانين المتضمنة لجرائم الغش التجاري كغش وتقليد العلامات والبيانات التجارية، وأيضا في القوانين المنظمة للجمارك.
وقد تؤول الأموال محل المصادرة، بقوة القانون، إلى جهة أو غرض محدد.
وقد يخول المشرع للقاضي سلطة الأمر بمصادرة الأموال لحساب الجهة التي يحددها نص التجريم. ومثال ذلك ما تنص عليه المادة 71 من القانون المصري رقم 49 لسنة 1945م - المعدلة بالمرسوم بقانون رقم 357 لسنة 1952م – الخاص بتنظيم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والتبرع للوجوه الخيرية، وهي تجيز للمحكمة في حالة جمع التبرعات بغير ترخيص أن تأمر بمصادرتها لحساب وزارة الشئون الاجتماعية التي تخصصها لوجوه البر التي تراها. ومثال ذلك أيضا المادة 36 من القانون رقم 57 لسنة 1939م.
وتذهب محكمة النقض المصرية إلى أن المصادرة في بعض القوانين الخاصة تعد من قبيل التعويضات المدنية إذا نص على أن تؤول الأشياء المصادرة إلى المجني عليه أو خزانة الدولة كتعويض عما سببته الجريمة من أضرار().
ويؤكد بعض الفقه() أن المصادرة هنا ليست عقوبة تكميلية، وإنما يغلب عليها طابع التعويض للمضرور من الجريمة، حيث يتم حجزها لاستنزال ثمنها من التعويضات أو الغرامات. ولذلك، فهي تطبق ولو لم يصدر حكم بالإدانة. كما يجوز توقيعها في بعض الفروض من قبل المحكمة المدنية. وهي مع ذلك، تحتفظ ببعض خصائص العقوبة في أنها تتطلب أن تكون الأشياء استعملت أو تحصلت من الجريمة، وأن تكون هناك جريمة قد وقعت في مادياتها وينطبق عليها نص تجريمي وارد في القانون الجنائي الخاص.
وتنص المادة 60 من القانون الاتحادي رقم (14) لسنة 1995م في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية على أن «يعدم ما يحكم بمصادرته من المواد المخدرة والمؤثرات العقلية الواردة في الجداول أرقام (1) و(2) و(4) و(5) المرفقة بهذا القانون بوساطة لجنة يرأسها أحد أعضاء النيابة العامة الذي يحرر محضرا بذلك ويجوز للنائب العام أن يأذن بتسليم تلك المواد إلى أية جهة حكومية للانتفاع بها في الأغراض العلمية أو الطبية أو غيرها، أما ما عدا ذلك من مواد مخدرة أو مؤثرات عقلية فتسلمه النيابة العامة للجهة الإدارية المختصة للتصرف فيها. ويصدر ببيان القواعد والإجراءات المتعلقة بإعدام تلك المواد والنباتات والتصرف فيها قرار من وزير العدل بعد أخذ رأي وزير الصحة».
المطلب التاسع
تقرير أحكام خاصة بالغرامة
تمهيد وتقسيم:
الغرامة هي إحدى العقوبات المالية التي يلجأ إليها المشرع الجنائي لكفالة الحماية للمصلحة المحمية قانونا. ويرد النص على هذه العقوبة وبيان الأحكام الخاصة بها في قانون العقوبات ذاته. وباعتبارها عقوبة جنائية، فهي تخضع للأحكام العامة للعقوبة، ولاسيما المبدأ القاضي بأن لا عقوبة إلا بحكم قضائي ومبدأ شخصية العقوبة. كذلك، فإن الأصل في الغرامة هو أيلولتها إلى خزانة الدولة.
ومع ذلك، تنص التشريعات الجنائية الخاصة على بعض الأحكام الخاصة لعقوبة الغرامة الواردة بها. وأهم هذه الأحكام تتعلق بالغرامة الإدارية، والتضامن في سداد مبلغ الغرامة، وأيلولة الغرامة.
§1. الغرامة الإدارية
كانت المادة 119 من قانون الجمارك المصري رقم 66 لسنة 1963م – قبل تعديلها بالقانون رقم 175 لسنة 1998م – تخول لمدير عام الجمارك سلطة فرض الغرامات الجمركية. ولكن المحكمة الدستورية العليا قضت بأن هذه الغرامات لا تعتبر تعويضات مدنية، بل تعتبر عقوبات بالمعنى القانوني، مما يتطلب أن يكون إيقاعها بعمل قضائي (حكم) طبقا للمادة 66 من الدستور. وتنفيذا لهذا الحكم، قام المشرع بتعديل المادة 119، بحيث غدا توقيع الغرامات والتعويضات بأمر جنائي وفقا للقواعد والإجراءات المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية(). وطبقا لهذه القواعد والإجراءات، يسقط الأمر الجنائي ويحاكم المتهم طبقا للقواعد العامة، إذا اعترض المتهم على الأمر().
§2. التضامن في سداد مبلغ الغرامة
تنص المادة 96 من قانون البيئة المصري رقم 4 لسنة 1994م على أن «يكون ربان السفينة أو المسئول عنها وأطراف التعاقد في عقود استكشاف واستخراج واستغلال حقول البترول البحرية والموارد الطبيعية الأخرى بما في ذلك وسائل نقل الزيت وكذلك أصحاب المحال والمنشآت المنصوص عليها في المادة (69) كل فيما يخصه، مسئولين بالتضامن عن جميع الأضرار التي تصيب أي شخص طبيعي أو اعتباري من جراء مخالفة أحكام هذا القانون، وسداد الغرامات التي توقع تنفيذا له وتكاليف إزالة آثار تلك المخالفة».
§3. أيلولة الغرامة
تنص المادة 119 الفقرة الثالثة من قانون الجمارك المصري على أن «تحصل الغرامات والتعويضات لصالح مصلحة الجمارك، وفي جميع الأحوال تكون البضائع ضامنة لاستيفاء الغرامات والتعويضات».
وتنص المادة 227 الفقرة الثانية من قانون المحاماة المصري على أن «تؤول حصيلة الغرامة المحكوم بها إلى صندوق الرعاية الاجتماعية والصحية».
وتنص المادة 159 من قانون الزراعة المصري على أن «تؤول حصيلة الرسوم والغرامات المنصوص عليها في المادة (158) من هذا القانون إلى الهيئة العامة للجهاز التنفيذي لمشروعات تحسين الأراضي بوزارة الزراعة وتودع في حساب خاص، وتخصص للصرف في الأغراض المنصوص عليها في تلك المادة، ويرحل الفائض من أموال هذا الحساب من سنة إلى أخرى، وذلك بمراعاة أحكام القانون رقم 53 لسنة 1973 في شأن الموازنة العامة للدولة». وتحدد المادة 158 الفقرة الثانية من ذات القانون أوجه الصرف، بنصها على أن «تخصص حصيلة هذه الرسوم (أي الرسوم المنصوص عليها في الفقرة الأولى من نفس المادة) وقيمة الغرامات المحكوم بها في المخالفات المنصوص عليها في هذا الكتاب لأغراض إزالة المخالفات إلى أن يتم تحصيل قيمة الغرامات من المخالفين ولإعادة الخصوبة للأرض المجرفة وتحسين الأراضي الزراعية ورفع مستوى خصوبتها وتمويل المشروعات التي تؤدي إلى زيادة الإنتاج الزراعي».
المطلب السابع
عقوبة نشر الحكم
يقرر المشرع الجنائي في بعض الأحوال عقوبة نشر الحكم. ويرد النص عادة على هذه العقوبة في القوانين الجنائية الخاصة(). والمقصود من نشر الحكم هو التشهير بجريمة المحكوم عليه وذياع عقوبته، الأمر الذي يسهم في إرضاء العدالة وتحقيق غرض الردع العام. كذلك يساهم النشر في تحقيق غرض الردع الخاص للمحكوم عليه، عن طريق المساس باعتبار المحكوم عليه والتأثير بذلك على سمعته، الأمر الذي يردعه عن تكرار جريمته مستقبلا().
وقد يحدد المشرع اللغة التي يتم بها نشر الحكم(). فعلى سبيل المثال، تنص المادة 43 من القانون الاتحادي رقم (37) لسنة 1992م في شأن العلامات التجارية على أن «للمحكمة المختصة أن تحكم بمصادرة الأشياء المحجوزة عليها أو التي يحجز عليها فيما بعد واستنزال ثمنها من الغرامات أو التعويضات أو التصرف فيها بأية طريقة أخرى تراها المحكمة مناسبة ويجوز للمحكمة أيضا أن تأمر بإتلاف العلامات غير القانونية أو أن تأمر عند الاقتضاء بإتلاف المنتجات والأغلفة ومعدات الحزم وغيرها من الأشياء التي تحمل تلك العلامات أو تحمل بيانات غير قانونية وبمصادرة الآلات والأدوات التي استعملت بصفة خاصة في عملية التزوير ولها أن تأمر بكل ما سبق حتى في حالة الحكم بالبراءة. ويجوز للمحكمة كذلك أن تأمر بنشر الحكم على نفقة المحكوم عليه في النشرة أو في إحدى الصحف التي تصدر في الدولة باللغة العربية». فهذا النص يقرر صراحة أن نشر الحكم يكون في النشرة، أي نشرة العلامات التجارية التي تصدرها الوزارة، أو في إحدى الصحف التي تصدر في الدولة باللغة العربية. ويعني ذلك أن المشرع يحدد، بشكل صريح، اللغة التي يتم بها تنفيذ عقوبة نشر الحكم.
ولكن في الغالب من الأحوال، لا يحدد المشرع لغة النشر. فعلى سبيل المثال، تنص المادة التاسعة من القانون الاتحادي رقم (4) لسنة 1979م في شأن قمع الغش والتدليس في المعاملات التجارية على أن «على المحكمة متى قضت بالإدانة في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادتين الثانية والثالثة من هذا القانون أن تقضي بمصادرة الأغذية أو العقاقير أو الحاصلات أو المنتجات أو المواد الأخرى التي تكون جسم الجريمة. وللمحكمة في هذه الحالة أيضا أن تأمر بنشر الحكم في جريدة أو جريدتين محليتين على نفقة المحكوم عليه». وتنص المادة 57 الفقرة الثانية من القانون الاتحادي رقم (14) لسنة 1995م في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية على أن «يجوز للمحكمة أن تأمر بنشر ملخص الحكم بالوسيلة المناسبة وعلى نفقة المحكوم عليه». وتنص المادة 63 من القانون الاتحادي رقم (17) لسنة 2002م في شأن تنظيم وحماية الملكية الصناعية لبراءات الاختراع والرسوم والنماذج الصناعية على أن «يجوز للمحكمة أن تحكم بمصادرة الأشياء المحجوز عليها أو التي تحجز عليها فيما بعد، كما يجوز للمحكمة أيضا أن تأمر بإتلاف أو إزالة آثار الفعل المخالف للقانون وكذلك الآلات والأدوات التي استعملت في التزوير، ولها أن تأمر بكل ما سبق حتى في حالة الحكم بالبراءة. ويجوز للمحكمة كذلك أن تأمر بنشر الحكم في النشرة أو في إحدى الصحف المحلية اليومية على نفقة المحكوم».
وعلى الرغم من سكوت النص عن تحديد لغة النشر، نعتقد أن عقوبة نشر الحكم لا تتحقق إلا إذا تم النشر في صحيفة عربية، ويمكن أن يتم النشر في صحيفة أخرى تصدر بلغة أخرى متى اقتضت الحاجة ذلك، كما لو كان الجاني والمجني عليه من الأجانب وشاع خبر الجريمة بين أقرانهما.
تنص المادة 46 الفقرة الثالثة من قانون مكافحة المخدرات المصري على أن «يجوز للمحكمة أن تأمر بنشر ملخص الحكم النهائي على نفقة المحكوم عليه في ثلاث جرائد يومية تعينها».
المبحث الثالث
مآل الاستثناءات الواردة في القوانين الجنائية الخاصة
تمهيد وتقسيم:
المطلب الأول
مدى دستورية النصوص المقيدة لسلطة القاضي التقديرية
تمهيد وتقسيم:
التفريد العقابي هو أحد المبادئ التي يقوم عليها النظام الجنائي الحديث. ويعد نظام وقف التنفيذ أحد وسائل التفريد العقابي.
وإذا كان من الضروري الموائمة بين الجزاء الجنائي وبين ظروف الجريمة وأحوال المجرم، مع ما يستلزمه ذلك من منح سلطة تقديرية للقاضي، فهل معنى ذلك ولازمه هو أن مبدأ التفريد العقابي يحظى بقيمة دستورية، بحيث يعد النص الذي يحرم القاضي من سلطته التقديرية أو من بعض مكنات ممارسة هذه السلطة مخالفا للدستور ؟
وفي الإجابة على هذا التساؤل، يسوغ القول بأن القضاء الدستوري في مصر وفرنسا مستقر على أن مبدأ التفريد العقابي يحظى بقيمة دستورية. ولكن اختلف الرأي فيما يتعلق بالقوة الدستورية لهذا المبدأ، وما إذا كان مطلقا أو نسبيا. ففي هذا الشأن، اختلف موقف المجلس الدستوري الفرنسي عن موقف المحكمة الدستورية العليا في مصر. ومن ثم، نرى من الملائم أن نعرض أولا لموقف المجلس الدستوري الفرنسي، ولموقف المحكمة الدستورية العليا في مصر بعد ذلك.
§1. الحكم في القانون الفرنسي
تعرض المجلس الدستوري الفرنسي في العديد من قراراته لمسألة السلطة التقديرية للقاضي، وذلك بناء على الطعون ضد بعض النصوص التي تنطوي في نظر البعض على تقييد لهذه السلطة. وأول قرارات المجلس الدستوري في هذا الشأن هو القرار الصادر في الثاني والعشرين من نوفمبر سنة 1978م. ويتعلق هذا القرار بالنص الذي قرر وجود مدة تسمى مدة الأمن()، لا يستفيد المحكوم عليه خلالها من أية منحة كالإعفاء من العقوبة أو تجزئتها أو الإفراج الشرطي، والمنصوص عليها حاليا في المادة 132-23 من قانون العقوبات الفرنسي() والمادة 720-2 من قانون الإجراءات الجنائية(). إذ طعن البعض في مثل هذا النص، ناعيا عليه أن حرمان المحكوم عليه خلال هذه الفترة من الوسائل التي تساعد في تفريد العقوبة ينطوي على خرق للقاعدة التي تقتضي منح القاضي سلطة تقديرية كبيرة عند تطبيق الجزاء الجنائي. وهذه القاعدة تشكل مبدأ أساسيا معترفا به في قوانين الجمهورية، وبالتالي فهو مبدأ دستوري يترتب على مخالفته وصم النص بعدم الدستورية. بيد أن المجلس الدستوري لم يستجب إلى ذلك، واضعا تفرقة مهمة يمكن أن تلقي الضوء على طبيعة السلطة التقديرية للقاضي، وما إذا كانت ذات طبيعة دستورية أم لا. بيان ذلك أن المجلس يقيم نوعا من التمييز بين الأحكام الخاصة بالنطق بالعقوبة وبين الأحكام الخاصة بوسائل تنفيذها، مؤكدا إسباغ القيمة الدستورية على الطائفة الأولى من هذه الأحكام وانحسارها عن الثانية. واستنادا إلى ذلك، يرى بعض الفقه() أن تفريد العقاب مع ما يستلزمه من سلطة تقديرية للقاضي ذو قيمة دستورية. إذ يدل هذا القرار بوضوح على أن القواعد الخاصة بتطبيق العقوبة تعد من القواعد الأساسية ذات القيمة الدستورية، وذلك على خلاف القواعد الخاصة بطريقة تنفيذ هذه العقوبات().
لكن، وفي قرار لاحق، عمد المجلس الدستوري إلى الحد من إطلاق الاعتراف بالقيمة الدستورية لمبدأ تفريد العقوبة ومفترضها المتمثل في السلطة التقديرية للقاضي الجنائي. وقد جاء ذلك بمناسبة بعض النصوص الواردة في مشروع «قانون الأمن والحرية»()، والتي تتضمن تقييدا لسلطات القاضي. فقد طعن بعض أعضاء البرلمان (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) في هذه النصوص بحجة أنها تنطوي – من وجهة نظرهم – على قسوة في تطبيق العقوبة، وتحول بالتالي بين القاضي وبين الاعتداد بالعوامل المحيطة بالمتهم والتي تكفل تحديد العقوبة وتطبيقها على نحو يتواءم مع شخصية المتهم ويمهد لعودته إلى المجتمع واندماجه فيه من جديد. ومن ثم، فإن هذا التقييد ينطوي على إنكار لمبدأ تفريد العقوبة، ويكون النص المقرر له مشوبا بعدم الدستورية. بيان ذلك أن مبدأ التفريد العقابي، وما يستلزمه من سلطة تقديرية للقاضي، نابع من المادة الثامنة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789م، والتي أرست مبدأ جدوى أو ضرورة العقوبة، ويعد كذلك أحد المبادىء الأساسية المعترف بها في قوانين الجمهورية. بيد أن المجلس الدستوري رفض هذا الطعن، مؤكدا أنه إذا افترضنا أن مبدأ تفريد العقاب يعد من المبادئ الأساسية التي تعترف بها قوانين الجمهورية، فإنه لا يسوغ أن يشكل عائقا أمام المشرع – مع ترك القدر المناسب من السلطة التقديرية للقاضي – في أن يحدد القواعد التي تضمن عقابا فعالا للجرائم(). ومفاد ما سبق أن المجلس الدستوري اعترف بالقيمة الدستورية لمبدأ تفريد العقاب وبالسلطة التقديرية للقاضي في تقدير العقوبة وتحديدها في ضوء أحوال المجرم وظروف الجريمة، وذلك مع التأكيد في ذات الوقت على أن هذا المبدأ تحكمه حدود معينة. وأهم هذه الحدود هي عدم تعارضه مع سلطة المشرع في وضع القواعد التي تكفل العقاب الناجع والفعال للجرائم(). وبناء على ذلك، فإن قيام المشرع بتقييد سلطة القاضي في بعض الحالات التي تبررها ضرورة فعالية العقاب، لا يعد مخالفا للدستور().
وفي أول فبراير سنة 1994م، أكد المجلس الدستوري قضاءه الثاني، وذلك بمناسبة النص الخاص بالعقوبة الجامدة (peine incompressible) التي لا يجوز إنقاص مدتها تحت أي ظرف من الظروف، والتي تطبق على مرتكبي القتل العمدي ضد الأحداث ممن تقل أعمارهم عن خمس عشرة سنة وكان مصحوبا باغتصاب أو تعذيب أو أي أعمال بربرية أخرى. إذ قرر المجلس أن النص على هذه العقوبة غير مخالف للدستور، استنادا إلى ذات الاعتبارات السالف ذكرها().
وهكذا، فإن السلطة التقديرية للقاضي الجنائي باعتبارها مفترضا أساسيا لتفريد العقاب تعد – وفقا للمجلس الدستوري الفرنسي – ذات قيمة دستورية. ولكنها لا تعد مبدأ دستوريا مطلقا يسمو على غيره من المبادئ الدستورية، وبالتالي لا يحول هذا المبدأ دون قيام المشرع بوضع القواعد التي تكفل فعالية العقاب، وإن ترتب على ذلك التقييد من سلطة القاضي التقديرية في تفريد العقوبة().
§2. الحكم في القانون المصري
خلافا لما انتهى إليه المجلس الدستوري الفرنسي، ذهبت المحكمة الدستورية العليا في مصر إلى أن النص في قانون خاص على حرمان القاضي من الحكم بوقف التنفيذ في بعض الحالات يعد مخالفا للدستور. وقد صدر هذا الحكم في الثالث من أغسطس سنة 1996م، ويتعلق بالفقرة الثانية من المادة 156 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966م، المعدل بالقانون رقم 116 لسنة 1983م(). ووفقا للفقرة الأولى من المادة المشار إليها، «يعاقب على مخالفة أي حكم من أحكام المادة 152 من هذا القانون أو الشروع فيها بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه وتتعدد العقوبة بتعدد المخالفات». وتضيف الفقرة الثانية من ذات المادة أنه «ويجب أن يتضمن الحكم الصادر بالعقوبة، الأمر بإزالة أسباب المخالفة على نفقة المخالف وفي جميع الأحوال لا يجوز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة». وأثناء محاكمته عن ارتكابه الجريمة المنصوص عليها في هذه المادة، دفع أحد المتهمين بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 156 من قانون الزراعة، وذلك فيما نصت عليه في عجزها من عدم جواز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة. وينعى المدعى على هذه الفقرة مخالفتها للمواد 86، 119 فقرة أولى، 165 و166 من الدستور، مؤسسا منعاه على دعامتين: أولاهما، أن تقدير العقوبة، بما في ذلك وقف تنفيذها، من سلطة القاضي، والاختصاص المقرر دستوريا للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل في عقيدة القاضي، وغل يده عن استعمال سلطته في إنزال العقوبة أو تقديرها. ومن ثم، يمثل النص المطعون فيه حجرا على حرية القاضي في أن يقدر لكل جريمة العقوبة التي تناسبها بما يعد افتئاتا من السلطة التشريعية على السلطة القضائية، وتدخلا في شئون العدالة. ثانيتهما، أن السلطة التشريعية تمارس ولايتها في مجال إقرار القوانين، غير مقيدة في ذلك إلا بالضوابط التي ألزمها الدستور بمراعاتها. وتنظيمها لموضوع على خلافها، يعني إهدارها أحكام الدستور، فضلا عن أن السياسة التي انتهجها قانون الزراعة لمواجهة صور العدوان على الأرض الزراعية، لم تكن غايتها الردع أو الإيلام، بل كانت لأغراض تمويلية، هي التي استلهمها ضمانا لأن يوفر الموارد التي يقتضيها دعم الأغراض التي تقوم عليها الهيئة العامة المنصوص عليها في المادة 195 من هذا القانون، والتي تعمل على صون الأرض الزراعية سواء من خلال إعادة خصوبتها بعد تجريفها أو عن طريق تحسينها وزيادة معدل كفاءتها، بما مؤداه إنشاء ضريبة بغير قانون ضرائبي ينظم أوضاعها.
وبعد أن تأكدت المحكمة من توافر شرط المصلحة في الدعوى، أكدت أن لكل جزاء جنائي أثرا مباشرا يرتد إلى طبيعته، يتمثل في حرمان الشخص من حقه في الحياة أو من حريته أو من ملكه، وكان منطقيا بالتالي أن تقيم الدول المتحضرة تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة، تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية تقمعها أو تقيدها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الدول الديمقراطية في ارتباطها بالمقاييس المعاصرة لمفهوم الجزاء، ومن خلال ما يعكسها من مظاهر سلوكها على اختلافها، وكان لازما على ضوء هذا الاتجاه أن تقرر الدساتير التقدمية القيود التي ارتأتها على سلطة المشرع في مجال التجريم تعبيرا عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافا منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها تفرض نظاما متكامل الملامح يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون – في إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية، بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة، تشويها لأغراضها.
وحيث أن العقوبة التي يفرضها المشرع في شأن جريمة حدد أركانها، تبلور مفهوما للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي تستهدفها، والتي لا يندرج تحتها رغبة الجماعة أو حرصها على إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها ليكون بطشها بالمتهم تكفيرا عما أتاه، وإن أمكن القول إجمالا بأن ما يعتبر جزاء جنائيا، لا يجوز أن يقل في مداه عما يكون لازما لحمل الفرد على أن ينتهج طريقا سويا، لا تكون الجريمة مدخلا إليه، ولا يكون ارتكابها في تقديره – إذا ما عقد العزم عليها – أكثر فائدة من تجنبها.
وسواء أكان هذا الجزاء مؤديا لتقويم من أصابهم، أو كافلا ردع غيرهم، أو مباعدا بين الجناة ومجتمعهم، ليكون الآخرون أكثر أمنا واطمئنانا، أو كان كل ذلك جميعا، فإن كثيرين من الفقهاء يقارنون بين نوعين من الردع؛ أحدهما ردع عام، ويتمثل في العقوبة التي يفرضها المشرع في شأن الأفعال التي أثمها، محددا عقوبتها، ومتدرجا بوطأتها على ضوء خطورتها، ليحمل من خلال عبئها جناة محتملين على الإعراض عن إتيانها وانتباذها. وثانيهما ردع خاص يتحقق في شأن جريمة تم ارتكابها ونسبتها إلى شخص معين، ليحدد قاض نطاق مسئوليته عنها، ويقدر عقوبتها تفريدا لها عند الحكم بها. ومن ثم، لا يتعلق هذا النوع من الردع باحتمال تحقق خطورة إجرامية، بل بأفعال تم ارتكابها تقوم بها خطورة فعلية. ولا تعدو هذه الصورة من صور الردع أن تكون تعبيرا عن مفهوم الجزاء – من منظور اجتماعي – باعتباره عقابا منصفا قدره قاض لشخص معين في شأن جريمة أتاها، فلا يحدد عقوبتها جزافا، بل من خلال علاقة منطقية تربطها مباشرة بمن ارتكبها لتقابل حدود مسئوليته جنائيا عنها، وبقدرها، بما يؤكد معقوليتها.
وحيث أن ما تقدم مؤداه أنه سواء أكانت العقوبة التي فرضها المشرع – وبالنظر إلى أهدافها الاجتماعية – غايتها تحقيق ردع خاص، أم كانت تعبيرا عن مفهوم متطور للجزاء باعتباره عقابا منصفا لأشخاص أتوا أفعالا جرمها المشرع، فإن تقديرها من خلال تفريدها يتعلق بعوامل موضوعية تتصل بالجريمة في ذاتها، وبعناصر شخصية تعود إلى مرتكبها، بما مؤداه قيام علاقة حتمية بين سلطة القاضي في تفريد العقوبة وتناسبها مع الجريمة، وارتباطهما معا بمباشرة الوظيفة القضائية اتصالا بجوهر خصائصها.
ولا يجوز بالتالي أن يقيد المشرع من نطاق هذه الوظيفة عن طريق التدخل في مكوناتها تقديرا بأن الجرائم لا تتحد في خطورتها، ولأن المتهمين لا تتجانس خصائص تكوينهم ولا تتحد بيئتهم، بل يتمايزون على الأخص من حيث تعليمهم وثقافتهم وقدر ذكائهم واستقلالهم وتدرج نزعتهم الإجرامية بين لينها أو اعتدالها أو غلوها أو إيغالها. ويستحيل بالتالي معاملتهم بوصفهم نمطا ثابتا، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في قالبها، بما مؤداه أن الأصل في العقوبة هو تفريدها، لا تعميمها. وتقرير استثناء من هذا الأصل – أيا كانت الأغراض التي يتوخاها – مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة – وبصورة مجردة – ليجر ألوانا من المعاناة تخالطها آلام تفتقر لمبرراتها، بعد أن فقدت العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، بما يقيد الحرية الشخصية دون مقتض.
كذلك، فإن اعتبار المتهمين نظراء بعضهم لبعض سواء في نوع جريمتهم أو دوافعها أو خلفيتها، لا يعدون أن يكون إخلالا بشرط الوسائل القانونية السليمة التي لا يتصور في غيبتها أن يكون للحق في الحياة، أو في الحرية، من قيمة لها اعتبارها.
ولازم ما تقدم أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية، مناطها أن يباشر كل قاض سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديرا لها، في الحدود المقررة قانونا، فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبرا لآثار الجريمة من منظور موضوعي يتعلق بها وبمرتكبها.
وحيث إن الدستور أعلى قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشر أو غير مباشر – أخطر القيود وأبلغها أثرا، وكانت دستورية النصوص الجنائية تحكمها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها، ولا تزاحمها في تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية، وكان الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها الحماية من جوانبها العملية، لا من معطياتها النظرية، وكان الاختصاص المقرر دستوريا للسلطة التشريعية في مجال إقرار القوانين، وما يتصل بها من إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية واختصها بها، وإلا كان مفتئتا على ولايتها، وكان اختصاص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات المطروحة عليها، يقتضيها أن تباشر في شأنها كل الحقوق التي يمكن ربطها عقلا بالوظيفة القضائية، فلا تنفصل عنها باعتبارها من دخائلها. متى كان ذلك، فإن تعطيل السلطة التشريعية لهذه الوظيفة – ولو في بعض جوانبها – يعتبر تحريفا لها، واقتحاما مخالفا للدستور، للحدود التي فصل بينها وبين السلطة القضائية.
وحيث إن النص المطعون فيه، وإن فرض الحبس والغرامة معا في شأن الإخلال بالأحكام التي تضمنتها المادة 152 من قانون الزراعة، إلا أنه ميز بين هاتين العقوبتين الأصليتين في مجال وقف التنفيذ، فبينما أجازه في عقوبة الحبس، حظره على إطلاق في عقوبة الغرامة، رغم كونها جزاء جنائيا حقيقيا، ليحول دون تفريدها ضمانا لتنفيذها في كل الأحوال – وأيا كان مبلغها – وعن طريق الإكراه البدني عند الاقتضاء، وهو ما يعني انقلابها إلى عقوبة سالبة لحرية المحكوم عليهم بها، مع بقاء كامل الآثار الجنائية المترتبة على الحكم في حقهم، بما مؤداه تغليظ عقوبتهم، وتطبيقها وفق آلية عمياء لا تقيم وزنا لظروفهم، ولا توفر لهم فرص تقويم اعوجاجهم، بل تردهم عن مجتمعهم وتمهد الطريق لعودتهم إلى الإجرام، فلا يكون النص المطعون فيه – وقد عطل سلطة القاضي في نطاق وقف تنفيذ عقوبة الغرامة – أصلح لهم، بل يكون القانون الأصلح هو ذلك الذي يعيد للقاضي هذه السلطة بعد إلغائها.
وحيث إن السلطة التي يباشرها القاضي في مجال وقف تنفيذ العقوبة، فرع من تفريدها، وكان التفريد لا ينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية، ويتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة فرضها المشرع بصورة مجردة، شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية جميعها، ولا يتصور بالتالي أن يكون إنزالها «بنصها» على الواقعة الإجرامية محل التداعي ملائما لكل أحوالها ومتغيراتها وملابساتها، وكان ما يراه القاضي مسوغا لاعتقاده بأن المحكوم عليه لن يعود مستقبلا إلى مخالفة القانون، سواء بالنظر إلى سنه أو خلقه أو ماضيه أو طبيعة الجريمة التي ارتكبها، وظروفها، مبناه عناصر واقعية يمحصها تحريا لحقيقتها، فلا ينتزعها، بل يلحظها ويقيمها على دعائم من القرائن وعيون الأوراق، ليقدر على ضوئها جميعا، عقوبتها – سواء في نوعها أو قدرها – وبما لا إخلال فيه بالحدود المقررة قانونا لها، وكان تنفيذ العقوبة المحكوم بها، أو الأمر بإيقافها، مما يدخل في تحديد «مبلغها» بل إن تنفيذها – وليس مجرد نوعها أو مدتها – هو الذي يحقق الإيلام المقصود بها، ليتهيأ بتطبيقها خطر الاتصال بمذنبين آخرين ربما كانوا أكثر عتوا وأفدح إجراما. متى كان ذلك، فإن سلطة تفريد العقوبة – ويندرج تحتها الأمر بإيقافها – هي التي تخرجها من قوالبها الصماء، وتردها إلى جزاء يعايش الجريمة ومرتكبها، ويتصل بها اتصال قرار.
وحيث إن من الثابت كذلك أن تفريد عقوبة الغرامة – وهو أكثر مرونة من تفريد العقوبة السالبة للحرية – يجنبها عيوبها باعتباره كافلا عدالتها، ميسرا تحصيلها حائلا دون أن تكون وطأتها على الفقراء أثقل منها على الأغنياء، وكان فرض تناسبها في شان جريمة بذاتها، إنصافا لواقعها وحال مرتكبها يتحقق بوسائل متعددة يندرج تحتها أن يفاضل القاضي – وفق أسس موضوعية – بين الأمر بتنفيذها أو إيقافها. ولئن كان النص المطعون فيه قد أجاز ذلك بالنسبة إلى عقوبة الحبس، إلا أنه سلب القاضي هذه السلطة ذاتها في شأن عقوبة الغرامة، التي لا تتكافأ مع العقوبة المقيدة للحرية في تهوينها من قدر الإنسان ومساسها بآدميته، بل هي دونها تجريحا، وهو ما يعني – في نطاق النزاع الماثل – الإخلال بخصائص الوظيفة القضائية، وقوامها في شأن الجريمة محل الدعوى الجنائية، تقدير العقوبة التي تناسبها، باعتبار أن ذلك يعد مفترضا أوليا متطلبا دستوريا لصون موضوعية تطبيقها.
وحيث إنه فضلا عما تقدم، لا يجوز للدولة – في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صونا لنظامها الاجتماعي – أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة تتم إنصافا، غايتها إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة وفقا لمتطلباتها التي بينتها المادة 67 من الدستور، وكان من المقرر أن «شخصية العقوبة» و«تناسبها مع الجريمة محلها» مرتبطان «بمن يكون قانونا مسئولا عن ارتكابها» على ضوء دوره فيها، ونواياه التي قارنتها، وما نجم عنها من ضرر، ليكون الجزاء عنها موافقا لخياراته بشأنها. متى كان ذلك، وكان تقدير هذه العناصر جميعها، داخلا في إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية، باعتباره من مكوناتها، فإن حرمان من يباشرونها من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة بما يوائم «بين الصيغة التي أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها في حالة بذاتها» مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة ولا يكون إنفاذها «إلا عملا مجردا يعزلها عن بيئتها» دالا على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامدا فجا منافيا لقيم الحق والعدل.
وحيث إن حصيلة الغرامات المحكوم بها وفقا للنص المطعون فيه، وإن كانت تؤول جميعها بقوة القانون إلى الهيئة العامة المنصوص عليها في المادة 159 من قانون الزراعة، لتعيد بها إلى الأرض الزراعية خصوبتها بعد تجريفها أو لتعمل من خلالها على تحسينها وزيادة معدل كفاءتها وإنتاجيتها، إلا أن اعتماد هذه الهيئة على تلك الغرامات، لا يجوز أن ينقص حقوقا أصيلة كفلها الدستور للسلطة القضائية واختصها بها، ولا أن يعدل من بنيانها، كتلك التي تتعلق بتفريد العقوبة لتطويعها من منظور موضوعي يبلور تناسبها مع الجريمة محلها واتساقها وأحوال مرتكبها، فلا تهيم في فراغ، ولا تكون انفاذا حرفيا للنصوص التي فرضتها، بما يحيل تطبيقها عدوانا على كرامة الإنسان وحريته، وهما تضربان بجذورهما عمقا صونا لآدميته وتعلوان قدرا على مجرد الأغراض المالية، ولا يتصور بالتالي أن تكون هذه الأغراض قيدا على أيتهما.
وعلى ضوء ما تقدم، خلصت المحكمة إلى أن النص المطعون فيه يكون قد أهدر – من خلال إلغاء سلطة القاضي في تفريد العقوبة – جوهر الوظيفة القضائية، منطويا كذلك على تدخل في شئون العدالة، مقيدا الحرية الشخصية في غير ضرورة، ونائيا عن ضوابط المحاكم المنصفة ليقع مخالفا لأحكام المواد 41، 67 و165، 166 من الدستور. ومن ثم، حكمت المحكمة بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 156 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966م من عدم جواز وقف تنفيذ عقوبة الغرامة.
ولا يشاطر بعض الفقه() المحكمة الدستورية العليا الرأي فيما انتهت إليه من عدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 156 من قانون الزراعة. ويستند هذا الرأي إلى عدة حجج: فمن ناحية، يلتزم قانون العقوبات بتحقيق نوع من التوافق في العلاقات الاجتماعية التي يحكمها، ويجب أن يأخذ كافة هذه العلاقات في اعتباره عند إنشائه للجرائم وتفريد عقوباتها. والسلطة التشريعية حينما تقوم بوظيفتها في هذا الإطار إنما تقوم بها بطريقة عامة مجردة. وحين يغلب المشرع مصلحة على أخرى، فإنه يرى بمنظوره العام والمجرد أن هذه المصلحة يقتضيها الصالح العام، وبالتالي ليس هناك ما يمنع من التضحية بما عداها من المصالح. فمن مصلحة المتهم الشخصية أن يوقف تنفيذ عقابه أيا كانت جسامة الجريمة التي ارتكبها، ولكن هذه المصلحة تعد مرجوحة أمام تحقيق أغراض الجزاء الجنائي وخاصة الردع العام في بعض المجالات. فكل مجتمع من المجتمعات يعتمد على مجموعة من القيم المعترف بها بواسطة الضمير الاجتماعي، وهذه القيم يتم ترجمتها بواسطة المشرع إلى مجموعة من النواهي أو الأوامر التي يترتب على مخالفتها توقيع العقاب. وتحديد القيم والمصالح واجبة الحماية والترجيح بينها هو من عمل المشرع، ولا تملك السلطة القضائية إلا تطبيق هذه الأوامر والنواهي طالما أن هذا التحديد والترجيح يقوم على أسس عامة مجردة. ومن ناحية أخرى، فإن العقوبة تخضع في تحديدها لمبدأ المنفعة. ومفاد هذا المبدأ هو ضرورة أن يتحدد العقاب بطريقة يجد فيها المجرم الحقيقي أو المحتمل أن مصلحته في عدم ارتكاب الجريمة وليس في ارتكابها. وقد اعترفت المحكمة في ثنايا حكمها بهذا المبدأ. ولكن يبدو أن المحكمة اعتبرت أن مبدأ المنفعة يحكم عمل القاضي في تطبيقه للعقوبة، وليس المشرع في تحديده لها. وغني عن البيان أن هناك بعض الجرائم يكون الدافع إلى ارتكابها الرغبة في الثراء غير المشروع. ونعتقد أن تجريف الأرض الزراعية أو البناء عليها يدخل في هذا الإطار. وقد أراد المشرع أن يعامل المتهم بنقيض مقصوده، بحيث يتضح له أن الجريمة لن تعود عليه بفائدة، وإنما الفائدة في عدم ارتكابها. والمشرع إذ جاء في الفقرة الثانية من هذا القانون ومنع وقف تنفيذ عقوبة الغرامة إنما طبق مبدأ المنفعة في أحسن صوره. ولا يصح النعي على هذا التوجه التشريعي الخاص في مجال معين، وإلا انتقلت الرقابة على دستورية القوانين من رقابة على مشروعيتها إلى رقابة على ملاءمتها الموضوعية والشخصية، وهو ما يخرج عن نطاق سلطة المحكمة، وهذا ما قررته صراحة المحكمة الدستورية العليا. ومن ناحية ثالثة، أشارت المحكمة الدستورية العليا إلى قيام المشرع بالتمييز بين عقوبتي الحبس والغرامة في مجال وقف التنفيذ، حيث حظره في عقوبة الغرامة، رغم كونها جزاء جنائيا حقيقيا، ليحول دون تفريدها، ضمانا لتنفيذها في كل الأحوال، وأيا كان مبلغها، وعن طريق الإكراه البدني عند الاقتضاء، وهو ما يعني انقلابها إلى عقوبة سالبة لحرية المحكوم عليه بها. وبذلك، تكون المحكمة الدستورية العليا قد اعتبرت أن الإكراه البدني عقوبة سالبة للحرية، مع أنه في الحقيقة ليس كذلك. فهو وسيلة وضمان لتنفيذ العقوبة المالية المتمثلة في الغرامة وليس عقوبة في ذاته. ومن ناحية رابعة، انطلقت المحكمة في تحديد مدى ملائمة النص والأغراض التي يسعى إلى تحقيقها من منظور شخصي، وهو مدى صلاحية هذا النص بالنسبة للمتهم، منحية جانبا الأغراض الأخرى التي يسعى النص على حظر وقف التنفيذ إلى تحقيقها. وفي ذلك، تقول المحكمة «... فلا يكون النص المطعون فيه – وقد عطل سلطة القاضي في وقف تنفيذ عقوبة الغرامة – أصلح لهم، بل القانون الأصلح هو الذي يعيد هذه السلطة بعد إلغائها». ولا شك أن هذا النهج في تطبيق النصوص قد يقوض النظام العقابي كله. ومن ناحية خامسة، فإن الغرض الأساسي لوقف التنفيذ في هو تجنب العقوبات السالبة للحرية، وهو ما ألمحت إليه المحكمة في حكمها. ولا شك أن الحرمان من وقف تنفيذ عقوبة الغرامة لا يتعارض بالتالي مع غرض وقف التنفيذ، اللهم إلا إذا اعتبرنا الإكراه البدني كوسيلة لتنفيذ الغرامة عقوبة سالبة للحرية، وهو ما ذهبت إليه خطأ المحكمة الدستورية العليا. ومن ناحية سادسة، استندت المحكمة في حكمها بعدم الدستورية إلى نصوص المواد 41، 67، 165، 166 من الدستور. ووفقا للمادة 41 من الدستور، «الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس، وفيما عدا حالات التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة وذلك وفقا لأحكام القانون ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطي». ومن الواضح أن هذا النص يقرر ضمانات معينة في المرحلة السابقة على المحاكمة، ولا صلة له بحالة الشخص المحكوم عليه بعقوبة، متى توافرت له في مرحلة ما قبل المحاكمة وفي خلالها كافة الضمانات التي نص عليها الدستور. ومن ثم، يغدو مبررا التساؤل عن وجه الصلة بين حرمان القاضي من مكنة وقف التنفيذ في بعض الحالات التي قدر المشرع أنها تستوجب ذلك وبين ضمانات الحرية الشخصية. ووفقا للمادة 67 من الدستور، «المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وكل متهم في جناية يجب أن يكون محام يدافع عنه». وبمجرد القراءة السريعة لهذا النص، يحق لنا التساؤل عما إذا كان الحرمان من وقف التنفيذ بطريقة مجردة على النحو الذي فعله المشرع في قانون الزراعة يعد إخلالا بموجبات المحاكمة القانونية. والإجابة على هذا التساؤل لابد أن تكون بالنفي. فالإخلال كان من الممكن تحققه، لو أن الأمر تعلق بحالة خاصة معروضة أمام القضاء، أو تعلق بحرمان طائفة معينة من الناس من وقف التنفيذ. إذ في هذه الحالات، يمكن القول بأننا لسنا بصدد محاكمة عادلة ومنصفة ومحايدة. أما وقد تعلق الأمر بنص مجرد يطبق على كل من يخالفه، فلا محل للنعي عليه بمخالفته لموجبات المحاكمة القانونية التي نصت عليها المادة 67 من الدستور. كذلك، لا يصح النعي على نص الفقرة الثانية من قانون الزراعة بأنها قيدت السلطة التقديرية للقاضي. فهذا التقييد يستمد سلطته من القانون، والقول بالسلطة التقديرية للقاضي لا يعني أنها مطلقة من كل قيد. إذ توجد حدود تشريعية لممارسة هذه السلطة، وهذه الحدود لا يجوز تجاوزها، وإلا أصبحنا أمام تحكم محض يتنزه عنه عمل القضاء. وتنص المادة 165 من الدستور على أن «السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون». وهذا النص يصعب الاستناد إليه أيضا في القول بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 156 من قانون الزراعة. بيان ذلك أن قيام المشرع برسم الحدود القانونية لسلطة القاضي في تطبيق العقاب وتفريده لا يشكل اعتداء على استقلال القضاء. فالاعتداء يتحقق عندما يحدث التدخل فيما هو في حوزته وما ترك لتقديره بنص قانوني. وهذا يعني أن وضع حد أدنى لا يجوز الهبوط عنه أو منع تطبيق الظروف المخففة بالنسبة لبعض الجرائم أو الحرمان من وقف تنفيذ بعض العقوبات لا يعد اعتداء على استقلال القضاء. وتنص المادة 166 من الدستور على أن «القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة». وبمطالعة هذا النص، يتضح أن الفقرة الأولى من هذه المادة صريحة في أن القانون هو السلطان الوحيد على القضاة. والقانون الذي يمنع وقف التنفيذ إنما يمارس هذا السلطان. وبالتالي لا يصح النعي على القانون آنف الذكر بمخالفته لهذه المادة. فالقانون قد مارس دورا منحه إياه الدستور، ومن ثم لا يسوغ القول بعد ذلك بأنه يتعارض مع الدستور. أما بالنسبة للفقرة الثانية من المادة 167، فإنها بحاجة لقدر أكبر من التأمل. فهذه الفقرة لا تجيز لأية سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة. وقد يبدو لأول وهلة أن تقييد السلطة التقديرية للقاضي هو تدخل في القضايا أو في إدارة العدالة. ولبيان وجه الرأي في هذا الصدد، يبدو من الضروري التفرقة بين مصطلحات «الجريمة» و«القضية» و«الدعوى». فالأولى يقصد بها الفعل في مفهومه الواسع، والذي نص المشرع على تجريمه ورتب عقوبة لمرتكبه. أما القضية، فهي جريمة ارتكبها شخص بعينه. والمراد بالدعوى هو دخول القضية حوزة المحكمة. والمشرع الدستوري قد ذكر اصطلاح «القضايا» ولم يذكر لفظ «الجرائم». ومؤدى ذلك أن المشرع الدستوري لا يجيز التدخل في القضايا المعروضة على القضاء، سواء كان ذلك أمام قضاء التحقيق أو قضاء الحكم. أما إذا كنا بصدد نصوص عامة مجردة، فإن حظر التدخل لا يشملها. فالمشرع الدستوري يجعل من دخول الجريمة مرحلة التخصيص والتحديد بارتكابها ونسبتها إلى شخص معين هو الحد الفاصل الذي لا يجوز معه لأية سلطة التدخل فيها لأنه في هذه الحالة – وفيها فقط – نكون بصدد اعتداء على استقلال القضاء، ويمس طريقة القضاء في إدارة العدالة على النحو الذي يقود إلى البراءة أو الإدانة. بالإضافة إلى ما سبق، مؤدى حكم المحكمة الدستورية العليا أن وقف تنفيذ العقوبة هو الأصل، والاستثناء هو عدم التنفيذ، الأمر الذي يقود إلى قلب الأوضاع في القانون الجنائي. إذ الأصل هو تنفيذ العقوبة وليس عدم تنفيذها. لذا، فإن الحكم بالعقوبة مع النفاذ لا يستوجب بيان اختيار القاضي لهذا الطريق، وذلك على خلاف الحكم بالعقوبة مع وقف التنفيذ.
وهكذا، يخلص هذا الفريق من الفقه إلى أن حكم المحكمة الدستورية العليا آنف الذكر يلقي بظلال من الشك حول دستورية العديد من النصوص الواردة في القوانين الجنائية الخاصة، والتي تتضمن تقييدا لسلطة القاضي التقديرية. وبصدور هذا الحكم، سيلجأ كل من تطبق عليه هذه النصوص إلى الدفع بعدم دستوريتها، وهو ما سيقود إلى سقوط كافة هذه النصوص ويضيع على المشرع أغراضا أرجح وأهم كان يقصدها من وراء هذا التشدد. ويصيف صاحب هذا الرأي أنه على فرض التسليم جدلا بأن تفريد العقوبة وموجبه، أي السلطة التقديرية للقاضي، يعد من المبادئ الدستورية التي لا يجوز بالتالي الخروج عليه، إلا أن هذا المبدأ يجب وضعه في إطاره المعقول على النحو الذي يحقق المصالح التي يرى المشرع الجنائي أنها جديرة بالحماية الجنائية وجديرة بالتشدد في هذه الحماية في بعض الأحيان().
وعلى كل حال، وأيا كان وجه الرأي في هذا الموضوع، ما يهمنا هنا هو التأكيد على أن حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 156 من قانون الزراعة من شأنه تقليل الفجوة ومساحة الاختلاف بين القوانين الجنائية الخاصة وبين قانون العقوبات، الأمر الذي يشكل خطوة في طريق وحدة النظام الجنائي بوجه عام.
المطلب الثاني
مدى ملائمة تعديل أحكام المصادرة الواردة في قانون العقوبات
وفقا للمادة (21- 131) الفقرة الرابعة من قانون العقوبات الفرنسي لسنة 1992م، إذا كان الشيء المصادر لم يتم ضبطه أو تعذر تسليمه، فإن الحكم بالمصادرة ينصب على ما يعادله من أموال(). وفي ذات الاتجاه، تنص المادة (69) من قانون العقوبات اللبناني على أنه «يمكن مع الاحتفاظ بحقوق الغير ذي النية الحسنة مصادرة جميع الأشياء التي نتجت عن جناية أو جنحة مقصودة أو التي استعملت أو كانت معدة لاقترافها. ويمكن مصادرة هذه الأشياء في الجنحة غير المقصودة أو في المخالفة إذا انطوى القانون على نص صريح. إذا لم يكن ما تجب مصادرته قد ضبط منح المحكوم عليه مهلة لأجل تسليمه تحت طائلة أداء قيمته حسبما يقدرها القاضي. يمكن للمحكمة عند الاقتضاء الاستعانة بخبير لتقدير القيمة الواجب أداؤها وتحصل القيمة المقدرة بالطريقة المتبعة في تحصيل الغرامة». ويستفاد من هذا النص أنه إذا لم يضبط الشيء، يمنح المتهم أجلا لتسليمه تحت طائلة تهديده بأداء قيمته إن لم يسلمه. ويقدر القاضي قيمة الشيء محل المصادرة، ومن الجائز أن يستعين في ذلك بخبير. فإذا تحقق أن المتهم لن يسلم الشيء، حكم عليه بأداء قيمته نقدا. وإذا لم يؤد المحكوم عليه طواعية المبلغ المحكوم به عوضا عن المصادرة، جاز إرغامه على ذلك بالطرق المتبعة في تحصيل الغرامة وهي الحجز على المال والإكراه البدني(). ويقرر المشرع السوري ذات الأحكام (المادة 69 من قانون العقوبات)، إذ أن هذا القانون يكاد يكون نسخة طبق الأصل من قانون العقوبات اللبناني.
ونعتقد بأن النهج المتبع بواسطة المشرعين الفرنسي واللبناني في شأن عقوبة المصادرة هو الأولى بالإتباع. وندعو المشرعين المصري والإماراتي إلى إتباع ذات النهج في شأن عقوبة المصادرة بوجه عام، وسواء ورد النص عليها في قانون العقوبات ذاته أو في أحد التشريعات الجنائية الخاصة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قانون العقوبات المصري ذاته قد خرج على قاعدة عينية المصادرة. فوفقا للمادة 79 الفقرة الثانية من هذا القانون()، «يحكم بمصادرة الأشياء محل الجريمة فإن لم تضبط يحكم على الجاني بغرامة إضافية تعادل قيمة هذه الأشياء». وقد ورد ذات الحكم، بذات العبارة، في المادة 79 (أ) الفقرة الثانية من نفس القانون().
من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بالتحديد المختلف لمحل المصادرة، يلاحظ أن القسم الخاص من قانون العقوبات ذاته يتضمن بعض الاستثناءات على الحكم العام الوارد في المادة 30 من هذا القانون. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 79 الفقرة الثانية من قانون العقوبات المصري على أن «يحكم بمصادرة الأشياء محل الجريمة فإن لم تضبط يحكم على الجاني بغرامة إضافية تعادل قيمة هذه الأشياء». وقد ورد ذات الحكم، بذات العبارة، في المادة 79 (أ) الفقرة الثانية من نفس القانون.
ومن ناحية ثالثة، يلاحظ أن الاتجاهات الجنائية الحديثة تقضي بتغليب التعويضات المقررة للمجني عليه على الغرامات والديون المستحقة للحكومة.
الفصل الثاني
العلاقة بين القوانين الجنائية الخاصة
وقانون الإجراءات الجنائية
تمهيد وتقسيم:
تتضمن القوانين الجنائية الخاصة غالبا مجموعة من القواعد الإجرائية التي تكفل ضمان فاعلية تطبيق الأحكام الواردة بها. ولكن يلاحظ أن تلك القواعد الإجرائية لا تكفي وحدها لتنظيم كافة الإجراءات التي يتم بمقتضاها توقيع العقاب على الأشخاص الذين يرتكبون أفعالا تندرج تحت نصوصه، وإنما تقتصر فقط على بيان القواعد المنظمة لإجراءات الكشف عن الجرائم وجمع أدلة وقوعها ونسبتها إلى فاعلها. أما ما عدا ذلك من تنظيم الروابط الإجرائية المختلفة المتعلقة بحق الدولة في العقاب والادعاء المدني وإجراءات تنفيذ الأحكام فيترك للقواعد العامة الواردة في قانون الإجراءات الجزائية().
المبحث الأول
سريان قانون الإجراءات الجنائية
فيما لم يرد بشأنه نص خاص
ورد النص على ذلك في بعض التشريعات الجنائية الخاصة. فعلى سبيل المثال، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة (42) من المرسوم بقانون اتحادي رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أن «تطبق فيما لم يرد به نص في هذا المرسوم بقانون الأحكام الواردة بقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية».
وفي سلطنة عمان، تنص المادة 21 من قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 126 لسنة 2008م على أنه «فيما لم يرد به نص في هذا القانون، تطبق الأحكام المنصوص عليها في قانون الجزاء العماني وقانون الإجراءات الجزائية».
المبحث الثاني
أهم الأحكام الخاصة بالقوانين الجنائية الخاصة
تمهيد وتقسيم:
المطلب الأول
تخويل الضبطية القضائية الخاصة
تنص المادة الخامسة من القانون الاتحادي رقم (9) لسنة 1976م في شأن الأحداث الجانحين والمشردين على أن «يكون للموظفين الذين يحددهم وزير الشؤون الاجتماعية صفة الضبط القضائي فيما يختص بجناح الأحداث وتشردهم».
وتنص المادة الخامسة من القانون الاتحادي رقم (14) لسنة 1995م في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية على أن «لوزير العدل بالاتفاق مع الوزير المختص أو من يقوم مقامه تخويل صفة مأموري الضبط القضائي لبعض موظفي وزارتي الصحة، والزراعة والثروة السمكية وموظفي دوائر الجمارك كل في حدود اختصاصه فيما يتعلق بتنفيذ أحكام هذا القانون». وتخول المادة التاسعة من ذات القانون «لوزير الصحة أن يعهد إلى بعض موظفي وزارته بالتفتيش على الجهات المرخص لها بمقتضى أحكام هذا القانون».
المطلب الثاني
إجراء أخذ وتحليل العينات
تخول المادة 116 من قانون الزراعة المصري «لمأموري الضبط القضائي دخول محال تجارة العلف وصناعته وتخزينه وإيداعه للتفتيش عليها وضبط ما يوجد فيها من المواد المشتبه في غشها والتحفظ عليها ولهم أخذ عينات منها بدون مقابل للتحقق من صلاحيتها ومطابقتها للمواصفات. وذلك فيما عدا الأماكن المخصصة للسكن».
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة من القانون الاتحادي رقم 4 لسنة 1979م بشأن قمع الغش والتدليس في المعاملات التجارية على أن «».
المطلب الثالث
تقييد السرية المصرفية
تنص المادة 30 من المرسوم بقانون اتحادي رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أن «يكون للنائب العام أو لمن يفوضه من المحامين العامين أن يأمر مباشرة بالإطلاع أو الحصول على أية بيانات أو معلومات تتعلق بحسابات أو ودائع أو أمانات أو خزائن أو تحويلات أو تحركات لأموال قامت دلائل كافية لدى النيابة العامة على أن لها علاقة بتمويل أو ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا المرسوم بقانون، واقتضى كشف الحقيقة ذلك الإطلاع أو الحصول على تلك البيانات أو المعلومات لدى المصرف المركزي أو أية منشأة مالية أو تجارية أو اقتصادية أخرى».
المطلب الرابع
استبعاد تطبيق نظام التقادم
تنص المادة 40 من المرسوم بقانون اتحادي رقم (1) لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية على أنه «استثناء من نص الفقرة الثانية من المادة (20) والمادة (315) من قانون الإجراءات الجزائية، لا تنقضي الدعوى الجزائية، ولا تسقط العقوبة المحكوم بها بمضي المدة في الجرائم المنصوص عليها في هذا المرسوم بقانون».
المطلب الخامس
تقرير مكافأة مالية لرجال الضبط
تنص المادة 131 من قانون الجمارك المصري على أن «تحدد بقرار من رئيس الجمهورية القواعد التي تتبع في توزيع مبالغ التعويضات والغرامات وقيمة الأشياء المصادرة على المرشدين ومن قاموا بضبط الجريمة أو أعانوا في اكتشافها أو ضبطها أو استيفاء الإجراءات المتصلة بها وعلى صناديق التعاون الاجتماعي والادخار والصندوق المشترك والأندية الرياضية الخاصة بموظفي الجمارك».
الفصل الثاني
العلاقة بين القوانين الجنائية الخاصة
تمهيد وتقسيم:
المبحث الأول
التنازع بين النصوص
تنص المادة 149 من قانون الزراعة المصري على أن «لا تخل أحكام هذا الباب بأية عقوبة أشد ينص عليها قانون العقوبات أو غيره من القوانين».
ووفقا للمادة 101 من قانون البيئة المصري، «لا يخل تطبيق العقوبات المنصوص عليها في هذا الباب بتوقيع أية عقوبة أشد منصوص عليها في قانون آخر».
وتنص المادة 42 من القانون الاتحادي رقم (9) لسنة 1976م في شأن الأحداث الجانحين والمشردين على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تقل عن ألفي درهم ولا تجاوز خمسة آلاف درهم كل من عرض حدثا لإحدى حالات التشرد بأن أعده لها أو ساعده أو حرضه على سلوكها أو سهلها له بأي وجه ولو لم تتحقق حالة التشرد قانونا. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعد حدثا لارتكاب جريمة أو القيام بعمل من الأعمال المجهزة أو المسهلة أو المتممة لارتكابها أو حرضه عليها ولو لم يرتكبها الحدث فعلا. وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر إذا استعمل الجاني مع الحدث وسائل إكراه أو تهديد أو كان من أصوله أو من المتولين تربيته أو ملاحظته أو كان الحدث مسلما إليه طبقا للقانون. وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة إذا ارتكب الجاني هذه الأفعال مع أكثر من حدث ولو في أوقات مختلفة. وذلك كله مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر». فالفقرة الأخيرة من هذا النص تقرر أن العقوبة الواردة بهذا النص لا تخل بأي عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر. ولم يحدد النص ماهية القانون الآخر، فيستوي أن يكون قانون العقوبات أو قانون جنائي خاص آخر. ومن ثم، يثور التساؤل عن حكم التنازع بين النص الوارد في قانون الأحداث وبين النص الوارد في قانون جنائي خاص، وأيهما يكون واجب التطبيق في هذه الحالة.
المبحث الثاني
مدى تكامل القوانين الجنائية الخاصة
مفهوم الحداثة الوارد في قانون الأحداث، ومدى جواز الاستعانة به في تفسير بعض النصوص الواردة في القوانين الجنائية الخاصة. مثال: جرائم تشغيل الأحداث الواردة في قانون تنظيم علاقات العمل.
الباب الثالث
إشكاليات تطبيق القوانين الجنائية الخاصة
تمهيد وتقسيم:
الفصل الأول
التنازع الظاهري بين نصوص التجريم
غالبا ما تتضمن القوانين الجنائية الخاصة النص على أن العقوبات المقررة للجرائم الواردة فيها لا تخل بأية عقوبة أشد منصوص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، كثيرا ما نصادف مثل هذا النص في القوانين الجنائية الخاصة (المادة 28 من القانون الاتحادي رقم 6 لسنة 1975م في شأن تنظيم قيد المواليد والوفيات؛ المادة 27 من القانون الاتحادي رقم 7 لسنة 1975م في شأن مزاولة مهنة الطب البشري؛ المادة 42 من القانون الاتحادي رقم 9 لسنة 1976م في شأن الأحداث الجانحين والمشردين؛ المادة 40 من القانون الاتحادي رقم 11 لسنة 1976م في شأن الأسلحة النارية والذخائر والمتفجرات؛ المادة 181 من القانون الاتحادي رقم 8 لسنة 1980م في شأن تنظيم علاقات العمل في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادتان 46 و48 من القانون الاتحادي رقم 26 لسنة 1981م بشأن القانون التجاري البحري في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادتان 322 و323 من القانون الاتحادي رقم 8 لسنة 1984م في شأن الشركات التجارية لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة 76 من القانون الاتحادي رقم 9 لسنة 1984م في شأن شركات ووكلاء التأمين؛ المادة 45 من القانون الاتحادي رقم 1 لسنة 1991م في شأن مؤسسة الإمارات للاتصالات؛ المادة 61 من القانون الاتحادي رقم 43 لسنة 1992م في شأن تنظيم المنشآت العقابية؛ المادة العاشرة من القانون الاتحادي رقم 15 لسنة 1993م في شأن تنظيم نقل وزراعة الأعضاء البشرية؛ المادة 51 من القانون الاتحادي رقم 14 لسنة 1995م في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية؛ المادتان 12 و13 من القانون الاتحادي رقم 20 لسنة 1995م في شأن الأدوية والمستحضرات المستمدة من مصادر طبيعية؛ المواد 51 و52 و53 و54 من القانون الاتحادي رقم 23 لسنة 1999م في شأن استغلال وحماية وتنمية الثروات المائية الحية في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة 87 من القانون الاتحادي رقم 24 لسنة 1999م في شأن حماية البيئة وتنميتها؛ المادة 15 من القانون الاتحادي رقم 1 لسنة 2002م في شأن تنظيم ورقابة استخدام المصادر المشعة والوقاية من أخطارها؛ المادتان 37 و38 من القانون الاتحادي رقم 7 لسنة 2002م في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة؛ المادة 23 من القانون الاتحادي رقم 9 لسنة 2002م بشأن هيئة الهلال الأحمر لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة 62 من القانون الاتحادي رقم 17 لسنة 2002م في شأن تنظيم وحماية الملكية الصناعية لبراءات الاختراع والرسوم والنماذج الصناعية؛ المادة 78 من المرسوم بقانون اتحادي رقم 3 لسنة 2003م في شأن تنظيم قطاع الاتصالات؛ المادة 25 من المرسوم بقانون اتحادي رقم 1 لسنة 2004م في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية؛ المادة 23 من القانون الاتحادي رقم 13 لسنة 2004م في شأن الرقابة على استيراد وتصدير وعبور الماس الخام؛ المادة الثالثة من القانون الاتحادي رقم 17 لسنة 2004م في شأن مكافحة التستر التجاري؛ المادة 33 من القانون الاتحادي 1 لسنة 2006م في شأن المعاملات والتجارة الالكترونية؛ المادة 26 من القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات؛ المادة 31 من القانون الاتحادي رقم 23 لسنة 2006م في شأن الدفاع المدني؛ المادة 18 من القانون الاتحادي رقم 24 لسنة 2006م في شأن حماية المستهلك؛ المادة 33 من القانون الاتحادي رقم 29 لسنة 2006م في شأن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة؛ المادة 20 من القانون الاتحادي رقم 37 لسنة 2006م بشأن شركات الأمن الخاصة؛ المادة 16 من القانون الاتحادي رقم 40 لسنة 2006م في شأن حظر استحداث وإنتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيميائية؛ المادة العاشرة من القانون الاتحادي رقم 51 لسنة 2006م في شأن مكافحة جرائم الاتجار بالبشر؛ المادة 16 البند الرابع من القانون الاتحادي رقم 13 لسنة 2007م بشأن السلع الخاضعة لرقابة الاستيراد والتصدير؛ المادة 57 من القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2008م في شأن الجمعيات والمؤسسات الأهلية ذات النفع العام؛ المادة 28 من القانون الاتحادي رقم 7 لسنة 2008 بشأن المركز الوطني للوثائق والبحوث؛ المادة 32 من القانون الاتحادي رقم 10 لسنة 2008م في شأن المسؤولية الطبية؛ المادة 66 من القانون الاتحادي رقم 3 لسنة 2009 في شأن الأسلحة والذخائر والمتفجرات). وهكذا، يسوغ القول بأنه من النادر أن يخلو قانون جنائي خاص من النص على العبارة آنفة الذكر. وقد ترد هذه العبارة في قانون العقوبات ذاته، بحيث يقرر المشرع عقوبة للجريمة ثم يردف ذلك بقوله «دون الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر» (المواد 340 و341 و348 و421 و423 من قانون العقوبات الاتحادي).
وفي القانون المصري، كثيرا ما يرد النص على ذات العبارة في القوانين الجنائية الخاصة (المادة 81 من قانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 127 لسنة 1955م؛ المادة 38 من قانون مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها رقم 182 لسنة 1960م؛ المادة 149 من قانون الزراعة رقم 53 لسنة 1966م؛ المادة الثامنة من القانون رقم 63 لسنة 1976م بحظر شرب الخمر؛ المادة 227 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983م؛ المادة 101 من قانون حماية البيئة رقم 4 لسنة 1994م؛ المادتان 73 و74 من القانون رقم 143 لسنة 1994م في شأن الأحوال المدنية؛ المادة 134 من قانون حماية الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002م؛ المادة 70 من قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003م؛ المادة 237 من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003م؛ المادة 118 من قانون البنوك رقم 88 لسنة 2003م).
ومن ثم، يثور التساؤل عن المراد بهذه العبارة، وعن ماهية القواعد التي تحكم التنازع بين النصوص الجنائية الواردة في قانون العقوبات ونصوص التجريم الواردة في القوانين الجنائية الخاصة.
والواقع أن الأمر لا يخرج عن أحد فرضين: أولهما، أن تكون نصوص التجريم الواردة في القوانين الجنائية الخاصة لا نظير لها في قانون العقوبات العام. وهنا لا تثور أدنى مشكلة. إذ لا نكون بصدد تنازع بين النصوص. وثانيهما، أن تكون نصوص التجريم الخاصة لها نظير أو مثيل في قانون العقوبات العام. ومثال ذلك صور التزوير المخففة في محررات رسمية التي قد ترد في بعض القوانين الجنائية الخاصة. وهنا فإن القاعدة واجبة التطبيق هي أن النص الخاص يقدم على النص العام.
والنص العام والنص الخاص قد يوجدان في ذات القانون. ولعل أبرز مثال على ذلك أن المادة 219 من قانون العقوبات الاتحادي تنص على أن «يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات كل طبيب أو قابلة أصدر شهادة أو بيانا مزورا في شأن حمل أو ولادة أو مرض أو عاهة أو وفاة أو غير ذلك مما يتصل بمهنته مع علمه بذلك ولو وقع الفعل نتيجة رجاء أو توصية أو وساطة». وتنص المادة 220 من ذات القانون على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين أو بالغرامة التي لا تجاوز عشرة آلاف درهم من قرر في إجراءات تتعلق بتحقيق الوفاة أو الوراثة أو الوصية الواجبة أمام السلطة المختصة بإصدار الإعلام أقوال غير صحيحة عن الوقائع المرغوب إثباتها وهو يجهل حقيقتها أو يعلم أنها غير صحيحة وذلك متى ضبط الإعلام على أساس هذه الأقوال». وتنص المادة 221 على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين أو بالغرامة التي لا تجاوز عشرة آلاف درهم من أعطى بيانا كاذبا عن محل إقامته وكذلك من انتحل اسما غير اسمه في تحقيق قضائي أو إداري». فهذه النصوص تعد نصوصا خاصة بالتزوير في بعض المحررات الرسمية، بينما يشكل نص المادة 217 من قانون العقوبات الاتحادي نصا عاما يطبق في كل ما لم يرد بشأنه نص خاص. ويجري نص هذه المادة الأخيرة على أن «يعاقب على التزوير في محرر رسمي بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات ويعاقب على التزوير في محرر غير رسمي بالحبس. وذلك كله ما لم ينص على غيره».
وقد يوجد النص العام في قانون العقوبات العام، بينما يوجد النص الخاص في قانون جنائي خاص.
تحت عنوان «تعدد النصوص الجنائية»، تنص المادة (12) من قانون العقوبات الليبي على أنه «إذا خضعت إحدى المسائل لعدة قوانين جنائية أو لأحكام متعددة من قانون جنائي واحد فإن القوانين الخاصة أو الأحكام الخاصة من القانون تسري دون القوانين العامة أو الأحكام العامة من القانون إلا إذا نص على خلاف ذلك».
تنص المادة (223) من قانون العقوبات الاتحادي على أن «لا تسري أحكام هذا الفرع على أحوال التزوير المنصوص عليها في قوانين عقابية خاصة».
وضوح النصوص التشريعية كالتزام دستوري على عاتق المشرع يقتضي حذف عبارة مع عدم الإخلال بالعقوبة الأشد.
الفصل الثاني
تحديد الطبيعة القانونية للغرامة
تمهيد وتقسيم:
كثيرا ما يلجأ المشرع إلى تدعيم قواعد القانون الأخرى بتقرير جزاء جنائي على مخالفتها، وذلك بالنظر لعدم كفاية الجزاءات الخاصة لحماية تلك القواعد(). ويتبع المشرع في ذلك أحد سبيلين: إما النص في تقنين العقوبات على اعتبار العمل أو الامتناع جريمة، وإما النص على ذلك في القانون الخاص ذاته. ولا خلاف في اعتبار العمل أو الامتناع جريمة إذا قرر له القانون جزاء جنائيا خالصا كالحبس، يستوي في ذلك أن يكون الحبس بمفرده أو بالخيار مع الغرامة. وإنما تثور الصعوبة بشأن تحديد الطبيعة القانونية للغرامة الواردة في بعض القوانين الجنائية الخاصة، وما إذا كانت عقوبة جنائية أو جزاء مدنيا. وقد ثارت هذه المشكلة بوجه خاص عند تطبيق أحكام قانون العقوبات الضريبي. إذ يعرف هذا القانون نوعا معينا من الغرامة، يسمى بالغرامة الضريبية، يتحدد عادة بنسبة معينة مما لم يؤد من الضريبة().
المبحث الأول
مضمون الإشكالية وأسبابها
لا نزاع في تحديد طبيعة الغرامة، واعتبارها جزاء جنائيا، إذا نص المشرع على الغرامة وحدها وعلى جواز الحكم بالحبس في حالة العود. ولكن تبدو الصعوبة عندما يكتفي التشريع الجنائي الخاص بالغرامة كجزاء على مخالفة بعض أحكامه. فعندئذ يلتبس الأمر بين الغرامة الجنائية والغرامة المدنية والغرامة التأديبية والتعويضات. فالمادة 122 من القانون المصري رقم 66 لسنة 1963م – الخاص بالجمارك – تنص على أن «يعاقب على التهريب أو الشروع فيه بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرين جنيها ولا تجاوز ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين. ويحكم على الفاعلين والشركاء متضامنين بتعويض يعادل مثلي الضرائب الجمركية المستحقة...». ولا تثير الغرامة نقاشا، فهي قد تكون عقوبة أصلية إذا اختارها القاضي دون الحبس، وتكون تكميلية إذا جمع بينهما. أما التعويض المعادل لمثلي الضرائب الجمركية المستحقة فهو مثار البحث، هل هو من قبيل التعويض بالمعنى المقصود في القانون المدني أو هو من قبيل الغرامات النسبية، أو هو نوع وسط بينهما.
كذلك كانت المادة 85 من القانون رقم 14 لسنة 1939م، معدلة بالقانون رقم 146 لسنة 1950م ثم بالقانون رقم 253 لسنة 1953م، تنص على جرائم ضريبية. وهي جرائم لأن القانون عبر بلفظ «يعاقب»، وضاعف الغرامة المقررة لبعض الجرائم في حالة العود، ووصف الدعوى التي ترفع عنها بأنها عمومية. ومع ذلك، تثير هذه المادة نقاشا بشأن التكييف القانوني لبعض الجزاءات الواردة بها، وما إذا كانت جنائية أو من طبيعة مدنية. بيان ذلك أن المادة آنفة الذكر تعاقب علي الجرائم الواردة فيها بالغرامة وبتعويض لا يقل عن 25% ولا يزيد على ثلاثة أمثال ما لم يؤد من الضريبة. فالغرامة عقوبة أصلية لا شك في ذلك، أما التعويض فيثير نقاشا حول ماهيته.
وقد وردت نصوص مماثلة في قانون الضرائب على الدخل الصادر بالقانون رقم 157 لسنة 1981م. فالمادة 181 منه تنص على أنه «في حالة الحكم بالإدانة في الأحوال المنصوص عليها في المادتين 178 و179 من هذا القانون يقضى بتعويض يعادل ثلاثة أمثال ما لم يؤد من الضرائب المستحقة». وتنص المادة 184 على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن شهر ولا تجاوز ستة أشهر وبغرامة لا تقل 100 جنيه ولا تجاوز خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، فضلا عن تعويض لا يقل عن 50% ولا يزيد على ثلاثة أمثال ما لم يؤد من الضريبة في حالة مخالفة حكم المادة السادسة والفقرة الثانية من المادة السابعة والمادة العاشرة والفقرة الأولى من المادة الحادية عشرة والفقرة الأخيرة من المادة الخامسة عشرة والمادة 70 من هذا القانون». واقتصرت المادتان 189 و190 على الحكم بتعويض نسبي بحدين أدنى وأعلى عند مخالفة بعض أحكام هذا القانون، مع ملاحظة أن المادة 190 تنص على أنه «يضاعف التعويض». وقد جاءت هذه النصوص في الباب العاشر بعنوان «العقوبات». ولم يرد في الأعمال التحضيرية للقانون رقم 157 لسنة 1981م إيضاح عن طبيعة التعويض الوارد به، وما إذا كان من قبيل العقوبات أو الجزاءات المدنية. ونصوص العقوبات المذكورة تقابل ما كانت تنص عليه المواد 85 وما بعدها من القانون رقم 14 لسنة 1939م.
ففي القوانين المالية، كقوانين الضرائب والجمارك، نجد أن المشرع يقرر غرامة على مرتكب جريمة التهرب الضريبي أو الجمركي، يراعي فيها زيادة الرسوم أو المبالغ المستحقة للدولة. ومعني ذلك أن المشرع أراد بهذه الغرامات ليس فقط زجر المخالفين وردعهم، ولكن أيضا تعويض خزانة الدولة().
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض التشريعات يطلق لفظ «التعويض» على هذه الغرامة، وهو ما لا يتفق مع تكييفها القانوني كعقوبة، وإن خالطها معنى التعويض(). ولا شك أن ذلك يبعث على اللبس والغموض، ويفسر تضارب وتردد أحكام القضاء في شأن طبيعة هذا النوع من الغرامات، ويبرر الخلاف الفقهي في هذا الشأن.
المبحث الثاني
غموض أحكام القضاء في شأن طبيعة الغرامة
يجرى القضاء الفرنسي على أن المبلغ المحكوم به على أساس ما لم يؤد من الضريبة هو من قبيل الغرامة. وللغرامة هنا طبيعة مختلطة، فتأخذ حكم التعويضات أحيانا وحكم العقوبة في أحيان أخرى. ذلك أنها تقدر بنسبة الضرر الذي يصيب الخزانة العامة من مخالفة حكم التشريع المالي، فيغلب فيها بالتالي معنى التعويض. ولكنها تقدر على أساس معين يخرجها من التضمينات التي تقدر بحسب الضرر الحقيقي الذي لحق الدائن، وفي هذا معنى العقوبة(). وباعتبارها من قبيل التعويضات، قضي بإجازة الحكم بها على عديم الأهلية والمسئول عن الحقوق المدنية(). إذ من غير الجائز الحكم على أحدهما بعقوبة جنائية. وحكم بأن صدور قانون أصلح بعد ارتكاب الفعل وقبل الحكم النهائي لا ينطبق على هذا النوع من الغرامات. وسند هذا القضاء أن هذه الغرامات تصبح دينا للخزانة على المدين بمجرد ارتكاب المخالفة(). كذلك، حكم القضاء الفرنسي بعدم جواز وقف تنفيذ الحكم الصادر بها(). ولكن القضاء الفرنسي يعطي هذه الغرامات حكم العقوبة في مسائل أخرى، فيعتبرها شخصية والدعوى بالمطالبة بها تنقضي بوفاة المتهم، فلا يجوز رفعها أو الاستمرار فيها ضد الورثة(). ويعتبر هذه الدعوى جنائية، تسقط بمضي المدة المسقطة لهذه الدعوى(). ويجعل الاختصاص بالحكم بها للمحاكم الجنائية(). ويجيز تحصيلها بالإكراه البدني، ما لم يكن محكوما بها على المسئول عن الحقوق المدنية(). ولم يكن يجيز الحكم بها مباشرة على شخص معنوي(). ويشملها قانون العفو(). ولا يلزم للحكم بها أن يثبت حصول ضرر للخزانة(). وقد لاحظ الفقه الفرنسي() على هذا القضاء أنه لا يسترشد في حلوله بقواعد معينة، بحيث يمكن تطبيقها كلما عرض البحث في تطبيق حكم جنائي على الغرامة الضريبية.
وفي مصر، عرضت محكمة النقض لطبيعة لفظ «الزيادة» الوارد في المادة 85 من القانون رقم 14 لسنة 1939م، والتي تقرر الغرامة الضريبية بقولها «وبزيادة ما لم يدفع من الضريبة بمقدار لا يقل عن 25% ولا يزيد على ثلاثة أمثال ما لم يدفع من الضريبة». وفي بيان طبيعة الزيادة المقررة بهذا النص، قررت محكمة النقض أنها ليست من قبيل العقوبات الجنائية بالمعنى الحقيقي، لأن فيها معنى التعويض عما لحق الخزانة العامة من الضرر بسبب ارتكاب جريمة ضريبية. فهي جزاء يلازم الغرامة أو الحبس، وإن غلب عليه معنى العقوبة. وبناء على ذلك، قضت المحكمة بعدم جواز وقف تنفيذ الحكم الصادر بها(). وهذا عين ما قضت به محكمة النقض الفرنسية في مسألة وقف التنفيذ. وقد جرت محكمة النقض عندنا على نهج القضاء الفرنسي، فلم تعرض عرضا شاملا لتحديد طبيعة هذا الجزاء، وكل ما فعلته أنها غلبت معنى العقوبة، بينما غلب القضاء الفرنسي معنى التعويض. وعند تعديل قانون سنة 1939م بالقانون رقم 146 لسنة 1950م، استبدلت كلمة «تعويض» بكلمة «زيادة». ولكن هذا التعديل اللفظي لم يحسم الخلاف في هذا الشأن. وفي هذا، تقول محكمة النقض أن «القانون رقم 146 لسنة 1950م وإن اختلفت بعض عباراته إلا أن المشرع لم يقصد الخروج بالزيادة أو التعويض عن كونه جزاء يلازم الغرامة، بل انه ما زال يغلب عليه معنى العقوبة وإن خالطه التعويض. وإذن فإن ما يثيره الطاعن من وجوب تدخل مصلحة الضرائب وثبوت الضرر لا يكون له محل، ولا يغير من هذا النظر ما ورد بهذا القانون عن رفع الدعوى والصلح في التعويضات أو طريقة التنفيذ بها، إذ أن هذا التنظيم لا يمس كونها جزاء وإن كان قد تضمن التعويض في ناحية»().
وفي حكم آخر، تعرضت محكمة النقض لبيان طبيعة الغرامة الواردة في الفقرة الثانية من المادة 14 من القانون رقم 221 لسنة 1951م في شأن فرض ضريبة على المسارح، والتي تنص على أنه «في جميع الأحوال يلزم المخالف بأداء باقي الضريبة مع زيادة تساوي ثلاثة أمثالها تضاعف في حالة العود». وفي هذا الصدد، قالت المحكمة أن «هذه الزيادة لا تخرج في طبيعتها عن الزيادة أو التعويض المشار إليه في القوانين الأخرى المتعلقة بالضرائب والرسوم والتي جرى قضاء محكمة النقض على اعتبارها عقوبة تنطوي على عنصر التعويض، ويترتب على ذلك أنه لا يجوز الحكم بها إلا من محكمة جنائية، وأن الحكم بها حتمي تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها بغير طلب من الخزانة أو تدخل منها في الدعوى ودون أن يتوقف ذلك على تحقق وقوع ضرر عليها، وأنه لا يجوز للإدارة الضريبية الادعاء مدنيا بطلب توقيعها، لأن طلب الحكم بها حق للنيابة وحدها وهي التي تقوم بتحصيلها وفقا للقواعد الخاصة بتحصيل المبالغ المستحقة لخزانة الدولة. فإن أخطأت المحكمة بعدم الحكم بها كان للنيابة وحدها سلطة الطعن في الحكم. ولا يجوز الحكم بوقف تنفيذها لأن فكرة وقف التنفيذ لا تتلاءم مع الطبيعة المختلطة للغرامة الضريبية. فإذا كيف الحكم المطعون فيه تلك الزيادة في الضريبة بأنها تعويض مدني وبنى على هذا أن مصلحة الضرائب يحق لها وحدها المطالبة به أمام المحكمة المدنية فإنه يكون قد خالف القانون»().
وقد عرض الأمر بعد ذلك على محكمة النقض، بصدد جريمة تهريب جمركي، وهي جريمة خلط أو غش الدخان المنصوص عليها في القانون الصادر في 23 يونيو سنة 1891م، والمعدل بالقانون رقم 87 لسنة 1948م، فقضت المحكمة بأن الغرامة النسبية والمصادرة المنصوص عليهما في هذا القانون لا يعتبران من العقوبات وإنما هما من قبيل التعويض عن الضرر الذي يصيب الخزانة من ذلك الخلط. وبناء عليه، يجوز لمصلحة الجمارك التدخل بصفتها مدعية بالحقوق المدنية للمطالبة بالغرامة والمصادرة().
ثم عادت المحكمة وقررت بأن الغرامة المذكورة ترد إلى معنى مثيلاتها في القوانين الأخرى المتعلقة بالضرائب والرسوم التي إن غلبت عليها صفة العقوبة فإن التعويض يخالطها، وأجازت كذلك قبول الدعوى المدنية المرفوعة من مصلحة الجمارك().
وفي حكم آخر، يتعلق بتطبيق المادة 17 من المرسوم الصادر في 7 يوليه سنة 1947م برسم الإنتاج أو الاستهلاك على الكحول، قضت المحكمة بأن ثلاثة أمثال الرسوم المستحقة التي يجوز الحكم بها هي تضمينات مدنية فضلا عن كونها جزاءات تأديبية تكمل العقوبة، ويحكم بها بلا ضرورة لتدخل الخزانة في الدعوى().
وبعد ذلك، قضت محكمة النقض بأن التعويضات المشار إليها في القوانين المتعلقة بالضرائب والرسوم هي عقوبة تنطوي على عنصر التعويض. وينبني على ذلك أنه لا يجوز الحكم بها إلا من محكمة جنائية وأن الحكم بها حتمي تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها وبلا ضرورة لدخول الخزانة في الدعوى، ودون أن يتوقف ذلك على تحقق وقوع ضرر عليها().
وجرى قضاء محكمة النقض على أن التعويض المذكور يأخذ حكم العقوبة في أنه لا يحكم به على المسئول مدنيا أو الورثة، وبوفاة المتهم تنقضي الدعوى().
وذهبت محكمة النقض إلى أن الغرامة الضريبية ذات طبيعة مختلطة، أي تجمع بين معنى العقوبة وصفة التعويض. وقالت بأن التعويضات المنصوص عليها في القوانين المتعلقة بالضرائب والرسوم هي من قبيل العقوبات التكميلية التي تنطوي على عنصر التعويض، مما يستلزم سريان القواعد العامة بشأن العقوبات عليها().
وهكذا، يمكن القول بأن أحكام القضاء تميل إلى أن الغرامات الضريبية والجمركية هي ذات طبيعة مختلطة، أي تجمع بين معنى العقوبة ومعنى التعويض. فهي بحكم صفتها الجنائية، لابد وأن يصدر بها حكم يبين مقدارها على وجه التحديد، وأن تقضي بها المحكمة من تلقاء نفسها دون حاجة للادعاء المدني من قبل الإدارة. وبحكم صفتها كتعويض، لا يجوز الحكم بوقف تنفيذها().
المبحث الثالث
الخلاف الفقهي بشأن طبيعة الغرامة
يذهب بعض الفقه الفرنسي إلى أن الغرامات المالية تعد من قبيل الجزاءات الإدارية، فكلها تهدف إلى ضمان حسن سير الإدارة العامة. قد يقال إن الجزاءات الإدارية لا توقع من جهة قضائية، ولكن ما الذي يمنع من مخالفة القاعدة هنا لاعتبارات أهمها: خطورة الجزاءات المالية، وسهولة الحكم بها تبعا للحكم بالعقوبة الجنائية، هذا فضلا عن أن تخويل القضاء النظر في هذه الجزاءات يفسر بكراهية الجمهور لمصلحة الضرائب وعدم ثقته في قراراتها وعدم رغبة الشارع في أن تكون هذه المصلحة خصما وحكما في الدعوى. أليس القضاء هو المرجع الأخير فيما يتعلق بالجزاءات الإدارية عامة. وهذا الرأي يفسر إلى حد ما الأحكام التي أصدرها القضاء الفرنسي في هذا الصدد، ولكن لا يصح الخلط بين الجزاءات الإدارية والجزاءات المالية؛ فالأولى تتعلق بالقانون الإداري والثانية تتعلق بالقانون المالي، ولكل من القانونين مجال مستقل. ثم إن الجزاء الإداري يوقع على ذوي الصفة العمومية، بينما توقع الجزاءات المالية على الأفراد.
والذي يبدو لنا أنه يجب الحسم في بيان طبيعة الغرامة، فلا يسوغ القول بأنها ذات طبيعة مختلطة. فهي تشبه إلى حد كبير الغرامة النسبية، ولها من الصفات ما يسبغ عليها وصف العقوبة، وإن كان فيها معنى التعويض كذلك. وإذا كانت المصلحة تقضي بعدم تطبيق بعض أحكام العقوبات، كالقانون الأصلح ووقف التنفيذ، فإن من الجائز النص على هذا صراحة في القانون. وفيما عدا ذلك، تخضع الغرامة المالية لأحكام العقوبات. ومن ثم، يكون على المحكمة الجنائية أن تقضي بها، ولا يقبل الادعاء المدني من الخزانة للمطالبة بها().
خاتمة
تناولنا في هذه الدراسة موضوع «القوانين الجنائية الخاصة. النظرية العامة». وقد تبين لنا عبر صفحات البحث مدى الأهمية التي يحظى بها هذا الموضوع.
ليست هناك تعليقات